جديد 4E

المخبـــــــز

   سليمان الحسين

كنت أستند الى عمود إنارة من عواميد ذلك الشارع المطفأة بأغلبيتها لأسباب اختلفت آراء السكان حولها، فالبعض يقول بسخرية هي مطفأة لتوفير الطاقة، والبعض الآخر يقول بعد أن تراكمت الأعطال فيها نسيت بلدية المنطقة إصلاحها او تناست لعدم توفر المال اللازم، لذلك اعتاد الناس على عتمة الشارع ولم يعودوا يهتمون بعواميده المطفأة , أما أنا فقد استعضت عن كهرباء البلدية بأضواء المحال التي اهتم أصحابها بإنارتها تخديما لأعمالهم وراحة لزبائنهم، فهذا الشارع يشتهر بمحاله الأنيقة التي تبيع الحلويات بأصنافها المتعددة ومخابز لبيع الخبز بأنواعه المختلفة التي تُعرض خلف واجهات زجاجية نظيفة لامعة تحت أضواء صممت بذوق وعناية لإظهار جودتها وإتقان صنعها.

وفيما كنت أتطلع إلى أحد تلك المخابز الأنيقة القريب من مكان وقوفي وقد صممت أن أشتري منه بعضا من أرغفة الصمون والكعك المسمسم عندما يأتي من كنت أنتظره وهو صديق من عاداته أن يتأخر عن مواعيده ويبرر تأخره دائما بألف سبب وسبب.

في تلك اللحظة مر من أمامي غلامان بهدوء وحذر كدت أحسبه تسللا،  وقصدا واجهة المخبز الذي كنت أقف بالقرب منه، وتوقفا عندها  وراحا يتطلعان الى أرغفة الخبز المختلفة الأشكال والأنواع ويتهامسان بكلمات لم أسمع منها حرفا ولكنهما وبعد أن تبادلا نظرات خاصة تراجعا عدة خطوات واستندا الى زاوية المخبز القريبة من مكان وقوفي، ساد بينهما صمت بدده أحدهما بالقول لرفيقه بصوت أمكنني سماع ما يريده

ــ سأطلب منه رغيفا …. فبادره رفيقه محتجا

ــ بل رغيفين .. أنا جائع ولم نأكل شيئا منذ الصباح

صدمني هذا الحوار وشعرت بالأسى والحزن، وبهدوء اقتربت منهما فلم ينتبها الى خطواتي وهما يشرحان حالة الفقر التي يعيشانها  فسمعت أحدهما يقول لرفيقه وهو يضحك:

 ــ لم التقطت هذا الحذاء المهترئ؟ ألم تر أنه بنصف نعل ؟!

من أرشيف الأنترنت

ــ بلى رأيت ولكن شوقي لأن انتعل حذاء جعلني التقطه من الحاوية التي كنا نبحث فيها عن أشياء ..   وساد بينهما صمت

وقفت قربهما عند زاوية المخبز فنظرا الي بخوف وكأنهما تفاجآ بوجودي فأمسك أحدهما بذراع رفيقه كالمستنجد به فسارعت بالقول

لا تخافا فأنا هنا لأشتري خبزاً لي ولصاحبي الذي انتظره .. ولكن لِمَ انتما في الشارع حتى هذه الساعة ؟!

ــ والى أين نذهب .. ؟ أجاب أحدهما.

 * الى البيت

 – ليس لدينا بيت

 * ولا أهل ؟

– أخذتهم الحرب فما من أحد يعيلنا أو يهتم بنا نحن وحيدان في هذه الدنيا                  

   * وأين تبيتان ..؟

  • في مداخل البنايات أو في الحدائق

* كل الأيام ؟!

ــ كل الأيام..

*لم تحاولوا اللجوء الى أحد ؟

ــ بلى حاولنا أن نلجأ الى الجوامع ففيها الدفء وسجاد ننام عليه فطردونا ولا نعرف لماذا !! .. وحالوا بيننا وبين الكنائس ولا ندري الأسباب !!.. ولم تقبلنا الجمعيات أيضا , سألونا أين اهلكم .. قلنا لهم أخذتهم الحرب فلم يصدقونا وطردونا         

  * وكيف تعيشون ؟!

كما ترى يا سيدي بعض الناس يعطونا القليل نأخذه لنعيش يوماً بيوم

* إلى متى ؟!

ــ لا نعرف .. أجاب أحدهما وقد غصً بالكلمات

*هل أنتم أخوة ؟ سألت

ــ نعم .. هز أحدهما برأسه موافقا 

كانا في حوالي التاسعة أو العاشرة من العمر وعلى وجهيهما ويديهما تظهر نظافة واضحة رغم هلهلة ثيابهما وكان الآخر ينتعل شيئا يشبه الحذاء أسوة برفيقه                      

    *هل أشتري لكما ما تأكلانه  ؟                                                                    

  ــ – لا نحن نأتي الى هنا كلما شعرنا بالجوع ولكن ليس لنشتري فنحن لا نملك نقودا إن صاحب هذا الفرن كريم فهو يعطينا ولا يطلب ثمنا                                                 

    *حسنا .. تعالا معي ..

انصاعا لدعوتي ولحقا بي،  ودخلنا الى صالة البيع في المخبز فقابلنا رجل أربعيني مرحبا ولكنه نظر الى الغلامين مبتسما وقال                                                             

   **رغيفكما ينتظركما .. لماذا تأخرتما اليوم ؟ ثم نظر الي وقال .. هما لا يأتيان إلا في هذا الوقت، فبادرته وقد فهمت أنه يمنحهما رغيفا كاملا من الصمون كلما أتيا وبدون مقابل.       

  ــ أرجو أن تعطيهما عدة أرغقة وهاك ثمنها                                             

          ــ **حسنا سأعطيهما ما طلبت ولكني لن اتقاضى ثمنها 

*شكرا جزيلا ولكن ما سوف أدفعه اليوم احتسبه عن يوم غد وفي كل يوم سأزور مخبزك وأسدد لك ما تعطيه لهما وما هما بحاجة اليه ولتتعرف علي .. أنا أقيم في المنزل المقابل لمخبزك وفي الطابق الثاني منه

فابتسم بلطف وقال:                                                   

** لا داعي لأن تعرفني بنفسك فأنا أعرفك من خلال مرورك اليومي أمام المخبز وسوف أهتم بهما فهما رغم فقرهما إلا أنهما مهذبان ولطيفان

التفت الى الغلامين وقد بانت على وجهيهما علامات الدهشة والفرح وقلت لهما          

     *سمعتما الحديث .. فلا تترددا كل يوم عن المجيء الى هذا الرجل الطيب وتطلبا ما تريدانه هل فهمتما ؟

 ــ شكرا سيدي .. الله يرزقك .. قال أحدهما

وبينما كان الرجل يوضب الأرغفة في كيس ورقي قلت لهما                                     

   * والآن لنفكر أين ستباتان ليلتكما اليوم .. وغدا سوف أجد لكما مكانا دائما،   

وهنا سارع الآخر بالقول :

  • كما نبيت كل ليلة هناك في مدخل العمارة

* أية عمارة ؟

قاطعنا صاحب المخبز متدخلا وموجها كلامه للغلامين بعطف ظاهر

** لن تذهبا الى أي مكان، فعندي في الخلف مكانا سوف أهيئه لكما كي تناما فيه كل يوم،  أنا لم أكن أعلم أنكما تبيتان في مداخل العمارات ! 

نظرت اليه وقد فاضت نفسي بالشكر له وعجز لساني عن التعبير، فلم أقل شيئا .. وافترقنا .

ذهبت أنا الى صاحبي الذي كنت لأول مرة أراه فيها منتظرا عند عمود البلدية فبادرني     

   ــ لماذا تأخرت ليس من عاداتك ؟! .. ضحكت وقلت:

* كما ترى أنا أعتذر فقد انشغلت بعض الوقت

ومنذ ذلك اليوم صرت أزور المخبز لأسدد عن الغلامين، وفي يوم استمهلني صاحب المخبز ليقول لي وهو يبتسم ابتسامة عريضة ويدفع بيدي التي احمل بها النقود ثمن ما تناولاه الصبيان بلطف  وهو يقول :

** لا تدفع لي شيئا من الآن فصاعدا ما كنت تدفعه عن الغلامين، فقد أصرت زوجتي أن يقيما عندنا في البيت بشكل دائم ..  فنحن لم نرزق بأطفال، وسوف نسجلهما في مدرسة الحي .. فشكراً لك لأنك أنقذت أطفالاً أيتاماً من الضياع في مجاهل الفقر  ومنحتنا ما كنا نفتقده.

 نظرت اليه وأنا أكاد أمسك بيده امتنانا وعرفانا فربَت على يدي ودمعت عيناه بدمعات محبة ولم يتكلم أحدنا بكلمة أو يقوم بتلويحة وداع .

غادرت المكان وقد انتابني شرود لذيذ وفرح غامر وأنا أردد بهمس .. لابد لمن يفعل الخير أن  يكافئه الله بأضعافه .. بما يهيئه له من رزق .