جديد 4E

  طرطوس .. طبعها الفينيق فصارت مرتعا لطائرهم

عبد المنعم علي عيسى:

طبعها الفينيقيون بوسم لازمها حتى يومنا هذا ، حتى ليكاد ذلك الوسم باد في تراسيمه حتى الآن بدرجة غدا معها الاثنان ، المدينة والوسم ، متلازمان لا يفارق أحدهما الآخر ، إلا أن الاكتشافات الروسية التي جرت العام 2021 كانت قد عثرت فيها ، جنبا إلى جنب الأواني الفينيقية ، على مزهريات مصرية وأدوات منزلية مصنوعة من أحجار رومانية ، وهذا يشير إلى تعرضها لغزوات متعددة جعلت منها مسرحا لتعاقب الحضارات ، شأنها في ذلك شأن كل المدن القائمة على  البحر المتوسط الذي شكل على امتداد 25 قرنا مهداً للحضارات

متقاسما تلك الصفة مع بلاد الرافدين التي انتجت هي الأخرى حضارات عريقة ، فيما تختلف كتب التاريخ حول أسبقية واحدة منهن على الأخرى ، لكن الثابت هو أن تلك الحضارات كانت ذات صبغة تفاعلية ، وسعيها المشروع في التمدد كان يقوم أساسا على ما تضيفه من إسهامات في مسار الحضارة الإنسانية .

أطلق الفينيقيون عليها اسم ” انترادوس ” وعلى نجمتها في البحر اسم ” أرادوس ” ، ثم أضحت ، زمن البيزنطينيين ، تحمل اسم طرطوز ، أما ” النجمة ” فحملت اسم أرواد ، والاسم  لا يزال مستخدما حتى الآن مع قلب ” الزال ” إلى ” سين ” بعد أن دخلها العرب إبان فتحهم لبلاد الشام ، وكلا الإثنين ، المدينة والجزيرة ، كانتا قد حظيتا بأهمية استثنائية زمن الحملات الصليبية على المنطقة ، والشاهد هو أن المدينة لا تزال تحوي حتى اليوم العديد من الآثار الدالة على تعاقب الغزاة ، لكن الأبرز منها هو ” كاتدرائية ” طرطوس الباقية حتى يومنا هذا ، والتي تشير بعض الروايات ، غير الموثقة ، إلى أن السيدة العذراء كانت قد شاركت في بنائها .

الشيخ صالح العلي

من مواليد الشيخ بدر العام 1883 ، والده الشيخ علي سليمان من قرية المريقب التابعة لناحية الشيخ بدر الذي عرف بفقهه و زهده وتسخيره للإثنين في مناهضة العثمانيين ،

حيث ستكون لهذه البيئة دوراً كبيراً في التصورات والرؤى التي سيبتنيها الفتى ” صالح ” لنفسه ، وسيذهب إلى مقارعة العثمانيين قبيل أن يبلغ العشرين من عمره ، وسيسجل تاريخه في هذا السياق معركتان هامتان هما ” كاف الجاع و النيحا ” ، وما بعدهما راحت عدسة الرؤيا لديه تظهر توسعا ، وبُعداً ، أكبر ، الأمر الذي سيظهر عبر اتصاله مع الشريف حسين ثم التنسيق معه ، وعندما قامت القوات الفرنسية بإنزال العلم السوري عن المباني الحكومية في الساحل دعا إلى عقد مؤتمر ” الشيخ بدر ” الشهير أواخر أيلول من العام 1918 ، حيث سيخرج هذا الأخير بقرارات عدة أبرزها المطالبة بضم الساحل السوري إلى ” سوريا الداخلية ” ، وانتخاب الشيخ صالح العلي قائداً للثورة السورية ، التي عرفت فيما بعد بالأولى تمييزاً لها عن تلك التي قادها المجاهد سلطان باشا الأطرش العام 1925 ، والثورة ستستمر لثلاث سنوات ونصف متواصلة دون انقطاع قبيل أن تصبح سوريا كلها كتلة من النار تحت أقدام الفرنسيين.

في غضون إعلان ثورته على الفرنسيين كانت له اتصالات مع العديد ممن آمنوا بذلك الطريق مثل سعدالله الجابري وابراهيم هنانو ويوسف العظمة الذي التقاه قبيل استشهاده بأشهر في قرية ” السويدة ” بريف مصياف ، وفي ذاك اللقاء قال له ” قد لا نستطيع منع الفرنسيين من دخول دمشق ، لكن المهم ألا يدخلوها تسليما ” ، وفي نهاية تلك المرحلة أصدر الفرنسيين عليه حكما بالإعدام الأمر الذي دعاه إلى توسعة مروحة اتصالاته التي شملت سلطان باشا الأطرش بعد قيام الأخير بإعلان قيام الثورة السورية الكبرى ، والجدير ذكره في هذا السياق أن الشيخ صالح كان قد التقى بأنطون سعادة ، مؤسس الحزب القومي السوري ، بعيد تأسيس الحزب العام 1932 كما تشير العديد من المراجع ، لكن ما لم تشر إليه هذي الأخيرة هو فحوى ذلك اللقاء الذي من المرجح فيه أن يكون سعادة قد قام بشرح مشروعه الذي يهدف من خلاله إلى النهوض ب ” سورياه ” .

عاود الشيخ نشاطه السياسي منتصف الثلاثينات من القرن الماضي عبر إعلان مقاومته لحالة التبشير السياسي والديني الذي كانت تمارسه البعثات الغربية في إقليم الساحل بدرجة أكبر من باقي الأقاليم السورية، وفي هذا السياق يسجل للشيخ صالح رفضه لقيام ” دولة علوية ” ، ويسجل له أيضا رفضه لأي منصب وزاري ما بعد استقلال البلاد ، حيث سيقول في خطاب له ألقاه في دمشق بعد الإعلان عن جلاء آخر جندي فرنسي ” ما كان لثائر رهن حياته وماله وبيته لأجل استقلال بلاده أن يقبل بتعويض عن ما قام به ” .

سيرد في الكتاب الذهبي لجيش الشرق الصادر في باريس العام 1936 التالي : ” إن سلطاننا لم يعرف الاستقرار في الساحل السوري إلا بعد معارك كبيرة ، لقد انتفض علينا منذ الأيام الأولى فلاحو الجبال متمثلين بالشيخ صالح العلي ” ، ثم التالي : ” لقد كانت جبال العلويين المسرح الأول لأهم و أكبر المعارك التي اشتبك فيها جيش الشرق ، والتي ذكّرت فرنسا بالحروب الكبيرة ” .

حامد حسن معروف

شاعر و أديب وباحث مواليد العام 1915 قرية ” الحرية ” التابعة لقضاء الدريكيش بريف طرطوس ، لقب بـ ” سنديانة الشعر ” نظرا لجزالة شعره ، و إليه ينسب تأليف النشيد العام لجامعة الدول العربية العام 1948 .

بدأ النشر في مطلع الثلاثينات ، ثم أصدر مجلة ” النهضة ” العام 1938 ، لكنه فضل منذ مطلع السبعينات العمل على نشر الثقافة عبر منابر المراكز الثقافية الآخذة بالانتشار وقتذاك .

كانت ميزة حامد معروف الأهم هي امتلاكه لرؤيا في الحداثة عبر عنها بالقول ” لا قديم ولا حديث في الشعر ، والمسألة نسبية مع الزمن ، أعطني خبزاً و خمراً وتوارى – إن شئت – وراء حدود التاريخ ” ، لكن سيل المزايا لن يقف عند هذي الأخيرة ،  فقد استوحى من بيئته الريفية طابع الصفاء الإنساني الذي طغى على شعره بشكل واضح ، حيث سيشكل ذلك ” الوحي ” جنبا إلى جنب العاطفة الوطنية ، ثنائية أفضت في تضاعيفها تميل للبحث عن كنه الإنسان و سر تعلقه بأرض الولادة والمنشأ وصولا إلى محاولة استشراف الحدود التي ترسمها تلك الثنائية .

كتب حامد حسن في الشعر والدراسات والمسرحيات الشعرية ، لكن عمله الفلسفي الأهم كان في ” المكزون السنجاري .. بين الإمارة والشعر والتصوف ” وهو صدر بجزأين أولاهما العام 1972 ، فيما الثاني تأخر للعام 2000 .

جورج جبور

ولد في قضاء صافيتا التابع لريف طرطوس العام 1938 ، فيما دراسته كانت في دمشق و مصر والولايات المتحدة الأمريكية .

من الصعب إيفاء جورج جبور حقه ، في عجالة من هذا النوع ، لقاء ما قام به على امتداد سنوات عمره التي وضع نفسه فيها أمام أهداف راسخة لا يحيد عنها ، وفيها اعتبر نفسه ” خط دفاع أول ” عن قضايا أمته التي عمل من أجلها ، وعبر مشاركته في تأسيس ” مركز دراسات الوحدة العربية ” جنبا إلى جنب مع خير الدين حسيب ، برز توجهه القومي بشكل منهجي ذي محددات وأطر راسخة ، لنراه ، إذ يعترف بتردي حال حقوق الإنسان العربي راهنا ، إلا أنه يبرر ذلك بقوله أن الفعل ناجما بالدرجة الأولى عن تخلف المجتمعات العربية التي لعب الغرب دورا كبيرا في إيصالها إلى ما وصلت إليه ، وفي 21 كانون ثاني من العام 1993  نشر مقالا في جريدة الثورة السورية قال فيه أن ” حلف الفضول هو أول هيئة لتنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم ” ، وفي سياق دفاعه عن رؤيته سابقة الذكر أرسل في 17 شباط 1994 رسالة إلى المفوض السامي الأول لحقوق الإنسان يدافع فيها عن فكرته ويدعو إلى إرسائها في أدبيات الأمم المتحدة ، وبعد نحو شهرين تلقى جبور ردا على رسالته ، لكن الرد اقتصر على مديح ما جاء في الرسالة ، ولم تنته حكاية جبور عند تلك النقطة فقد أصر على إبقاء الطرح ساخنا ، حيث ستتكلل جهوده اللاحقة ب ” نصف نجاح ” وفقا لتوصيفه ، ففي 10 شباط من العام 2007 اعتمدت الأمم المتحدة وثيقة قيمت فيها حلف الفضول كوثيقة ترقى لأن تكون فتحا غير مسبوق في سياق الدفاع عن حقوق الإنسان ، أما ” نصف النجاح ” وفقا لتوصيف جبور آنف الذكر فهو تأتى عنده من أن الوثيقة اعتبرت الحلف ” جاهليا ” ، دون أن ترد على ذكر أنه كان مباركا إسلاميا .

كان جورج جبور مدركا تماما لحقيقة أن الدفاع عن تاريخ الأمة وحضارتها يقتضي إرساء نقاط علام أولية على الصعيد العالمي الأمر الذي يشكل ” نقاط إنارة ” تضيئ في الذات الجمعية للشعوب، ففي 15 آذار 2006 ، و إبان إلقائه لمحاضرة على مدرج جامعة حلب ، طالب القمة العربية التي انعقدت في الخرطوم اعتبار اليوم الذي نزلت فيه آية ” اقرأ ” يوما عالميا للغة العربية  ، وهو الأمر الذي تبنته تلك القمة ، وفي نهاية المطاف أقرت منظمة ” اليونسكو ” تلك الفكرة ، ومن ثم حددت موعداً له يأتي في 18 كانون أول من كل عام .

كانت آخر دعوات جورج جبور هي إنشاء ” حلف فضول ” عالمي يوفق ما بين الديانات و الثقافات و الشعوب ، والدعوة التي يدرك مطلقها أنها مستحيلة لأنها تتنافى مع مصالح ، ومطامع الكثيرين ، لكنه يدرك أنه رمى بحجر ثقيل في بركة غير راكدة أصلا .

آل بهلوان … الحفاظ على إرث الفينيق

كان الفينيقيون أول من خاض غمار مخاطر الإبحار للوصول بأبجديتهم التي صكوها في أوغاريت قبيل نحو عشرة آلاف عام، وكذا علومهم وصناعاتهم التي كانت نتيجة للفعل الأول ، إلى فضاءات أخرى ومناخات تعطي للفعل بعداً آخر شبيهاً بالأثر المتولد عن سرقة بروميثوس للنار من الآلهة وإهداؤها للبشرية كما تقول الأسطورة الإغريقية ،

وفي السياق وسع هؤلاء من نقاط ارتكازهم حتى وصلوا إلى أرواد التي أضحت منذ العام 1500 ق . م مركزاً ذي شهرة واسعة بصناعة المراكب الخشبية والسفن اللازمة لأداء المهام سابقة الذكر ، وبمرور الوقت أضحى ” المركز ” ذائع الصيت لجهة تأصل الصنعة فيه بعد أن استطاعت ، إلى اليوم ، الحفاظ على طابعها الفينيقي الذي يقوم على خصوصية في طريقة الصنع وصولا إلى المعايير والمقاييس التي تفضي إلى نموذج لا يمكن لناظر أن يخطئ في تحديد ” شهادة المنشأ ” التي خرج منها ذلك النموذج ، والشاهد هو أن البريطانيين كانوا قد اكتشفوا في العام 2009 سفينة غارقة بالقرب من سواحلهم ، ولم تطل الدراسات ليتكشف سريعا أن تلك السفينة هي من منشأ فينيقي من النوع الذي شاعت صناعته بأرواد قبيل نحو ثلاثة آلاف عام.

مثلت عائلة بهلوان في أرواد نموذجا لحمل الراية التي التقطتها منذ نحو قرن ونصف حتى باتت اليوم هي الوحيدة التي تمتلك الإرث ، وكذا الروح الضنينة بوجوب حفظه ، القادر على حفظ الصنعة التي تزايدت مشاكلها مع اندلاع الأزمة السورية على الرغم من أن الجزيرة ظلت بمنأى عن أحداث العنف ، لكن أنى لها أن تظل بمنأى عن تداعياته ؟

يقول ” شيخ الكار ” فاروق بهلوان في تقرير لوكالة ” سبوتنيك ”  الروسية نشرته العام الماضي أن ” الجيل الحالي الذي يعمل بالصنعة هو الثالث ، وتعداده لا يتعدى 11 شخصاً وجلهم غدا طاعنا بالسن ” ، وأن ” معوقات الصنعة تعددت مع تصاعد الأزمة الاقتصادية بالبلاد ، ناهيك عن أن الطلب قد تراجع على المصنوعات في السنوات الأخيرة جراء ارتفاع أسعارها ” .

قد يكون ما قاله ” شيخ الكار ” ، خصوصا  ما ذكره حول المخاوف المحيطة بتوريث الصنعة ، صحيحا ، بل ولربما كانت المصاعب تفوق تلك التي ذكرها ، لكن الصحيح أيضا ، مما جاء إيحاءً في مقابلة شيخ الكار آنفة الذكر ، هو أن ” الجينات ” التي تحمل بين ثناياها أسطورة طائر الفينيق الذي يقوم بحرق نفسه كل خمسمائة عام ليخرج من رماده طائرا فتيا قادرا على أن يجوب البحار و بمديات أبعد من تلك التي كان يجوبها أبوه ، كفيلة بحفظ الإرث الذي يمثل ، أكثر ما يمثل ، روحا متحفزة مؤمنة بقدرتها الدائمة على النهوض ،   فأنى .. أنى لطائر الفينيق أن يستكين ؟ .

خاص للسلطة الرابعة