عبدالمنعم علي عيسى :
وضعتها الجغرافيا على المصطبة الساحلية العليا للسفوح الغربية من جبال طرطوس ، حيث سيحيل التجاور ، ما بين ” المصطبة ” والبحر ، المكان إلى ” قطعة سما ” يروق لمقلتي الناظر الثبات عندها دون أن تعتريهما حالة من الملل أو ضرورة البحث عن مطارح أعلى للجمال ، والفاعل سيخلص ، إذا ما مارس ذلك الفعل ، إلى نتيجة مفادها أن اختيار طائر النورس / الفينيق لـ ” حصين البحر ” كملاذ ، من بين عشرات النظائر ، كان مثاليا لترسيخ الأسطورة التي تقول أنه يقوم بحرق نفسه ، كل خمسمئة عام ، ليخرج من رماده طائراً فتياً أكثر قدرة على التحليق ، وأن الاختيار لم يكن فعلا اعتباطيا .
لا يعرف الكثير عن تاريخ ” حصين البحر ” فدلالة الاسم ، الذي لا يشابه الأسماء السريانية لنظيراتها في المحيطين الأقرب فالأبعد ، تشير إلى أنه حديث العهد ، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن جذورها طافية على سطح التاريخ مما يفرضه التوصيف الأخير آنف الذكر ، فجميع المعطيات ، التي تفرضها استثنائية الجغرافيا ، تقول أن من المستحيل على الفينيقيين ، مثلا ، إهمال كل تلك المعطيات ، وإن كان ذلك يقع في باب الفرضية بسبب غياب ” الأوابد ” التي تمثل دليلا حسيا يمكن الركون إليه في تحديد عمق الجذور ، لكن متى كان غياب ” الأوابد ” دليلا قاطعا على حداثة العهد في ظل اتفاق على وجود انقطاع في ” تسلسل ” الحضارات ووصولها إلينا ؟ ثم ألا تمثل ” المورثات ” ، التي تقف على أهبة الاستعداد بانتظار ” ظروف مناخية ” مساعدة لكي تظهر ” صبغياتها ” بحال من ” البهاء ” الحضاري دليلا وازنا ، يعتد به ، على غوص الجذور لأعماق سحيقة في رحم ذلك التاريخ ؟ .
ستشهد المرحلة الممتدة ما بين منتصف الثلاثينات من القرن الماضي وبين ستينات هذا الأخير ولادة فوج من ” النوارس ” كان من المقدر لتحليقاتها أن تضيف إلى ” قطعة السما ” مزيدا من بهائها ، ومزيدا أيضا من اليقين الذي يؤكد أن أسطورتها ، آنفة الذكر ، لم تولد من عبث ، كانت مسيرة ” حيدر حيدر ” تشي في تقلباتها بنفس تعتريها الكثير من النزعات بدءا من الفلسفة التي تطغى عليها نفحة سوريالية ، مرورا بالدين ممزوجا بالتاريخ ، ثم وصولا إلى بروز التيه ومحاولات البحث الدائم الناجمين عنده بالتأكيد من تتالي الانهيارات التي لم تنقطع ، ولعل ذروة التجربة كانت قد ظهرت في ” وليمة لأعشاب البحر ” العام 1983 التي أثارت زوبعة لم يتوقف دورانها حتى اليوم ، فالرواية ذهبت ، في معرض رصدها للواقعين العراقي والجزائري المتشابهين حد التماهي عند حيدر ،
نحو تبيان المشتركات بين الواقعين بدءا من التمرد والإخفاقات ثم وصولا إلى الأوجاع والآلام التي ظلت تغوص في النفس حتى أعمق أعماقها ، لكن الهاجس الأكبر يبقى في التطلع لحرية لا سماوات لها ، وفي السياقات يبدو أن المرامي البعيدة إنما تكمن في محاولة تحفيز التراث والثقافة الغائرتين في ذات الإنسان العربي بغية الدفع بهذي الأخيرة نحو مديات أعلى ، وتحليق في فضاءات لا تبين لها حدود ، حيث الأخيرة هنا تمثل بالضرورة فعل تقييد يبدأ صغيراً ثم ينتهي بواد سحيق من الصعب تلمس قيعانه .
في العام 2000 سيشهد الحلم محطة هي أقرب إلى ” الإنكسار ” عندما قررت القاهرة إعادة طبع ” الوليمة ” الحدث الذي قوبل بمظاهرات تشنجت حتى راح بعض روداها يحرقون نسخ منها ،
الأمر الذي حاول حيدر أن يعزوه للتطرف ، لكنه اكتشف أن جزءً وازناً ممن يكتب لهم قد خذلوه ، فهو سيقول في إحدى حواراته التي كثرت ما بعد الحدث ” كنا نظن أننا في خندق واحد مع من نكتب لهم ، لكننا اكتشفنا أن هؤلاء في خندق معاد لنا ” ، أما تلاشي الحلم فلسوف يمكن تلمسه عند حيدر ما بعد بغداد 9 نيسان 2003 الحدث الذي سيراه أثقل وطأة من فلسطين 1948 و مصر 1967 ولبنان 1982 ، لجهة الحمولات الثقافية والمجتمعية التي سيرخي بها الأول ، بدرجة تفوق تلك التي أرخاها ثالوث الأحداث سابق الذكر ، على ذهنية التفكير الفردية والمجتمعية على حد سواء ، ومن المؤكد أننا ، بعد تسع عشرة عاما على سقوط بغداد ، نستطيع القول أن ” نبوءة ” حيدر قد تحققت ، بل ولربما كانت بقوام أقل من ذاك الذي جاءت عليه .
الفوج إياه سيشهد تجربة أخرى كانت ذات طابع مختلف ، و إن كانت تتشارك بالكثير مع سابقتها ، فسعد الله ونوس الذي كان يصغر حيدر بخمس سنوات ، سيعمد ، بعد طول تجارب في التنقل والدراسة والصحافة ، إلى المسرح الذي ملأ كيانه ، فيما استطاع الأول الإمساك بناصية الأخير ، حتى بدا الاثنان كتلة واحدة لا تنفصم ، والذروة هنا ستكون عند ” حفلة سمر من أجل 5 حزيران ” ، التي كتبها في أعقاب هزيمة الجيوش ، وكذا المجتمعات العربية صيف العام 1967 ، وفيها عمد إلى تشريح الأسباب التي عزاها لكل هذا السطح السياسي الطاف في المنطقة العربية ، ومن ورائه كل تلك البنية الاقتصادية – الاجتماعية التي أفرزته ، وفي أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982 سينكفئ ونوس عن الكتابة ، أسوة بالكثير من الكتاب الذين فعلوا حتى أن بعضهم انتحر ، ولسوف يمتد فعل الانكفاء لعشر سنوات متواصلة ، ولربما جاء القرار بإعادة الوصل مع الرحم بعيد زلزال كان له وقع أكبر في دواخل ” المنكفئ ” ، ففي أعقاب الغزو العراقي للكويت آب 1990 سيعود هذا الأخيرة عن قراره عبر مسرحية ” الاغتصاب ” ثم ستليها أعمال أخرى مثل ” منمنات تاريخية ” و ” طقوس التحولات والإشارات ” وآخرها ” بلاد أضيق من الحب ” ، وفي التعليق على إصابته بمرض السرطان 1992 سيقول ونوس أنه يشك بأن حرب الخليج ، أي حرب 1991 ، كانت السبب المباشر لإصابته بالمرض إذ ” ليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأمريكي على العراق ” ، كان هذا النوع من المواقف هو الأخير مما سنشهده عند نخبنا و مثقفينا ، والمؤكد هو أنه غاب عنا في أواخر القرن الماضي مفسحا المجال أمام سيل من الإنهيارات لم يكن مقدرا له أن يتوقف .
تنبأت الكلمة ، التي ألقاها ونوس بمناسبة يوم المسرح العالمي العام 1996 ، بالنهاية ، وفيها أراد أن يترك بصمته وعصارة تجربته ، حيث ستظل جملته الشهيرة ” إننا محكومون بالأمل ، وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ ” ، كما الصدى اللامتناهي في الوديان ، وفي المطلق كانت البصمة نوعا من ” بث ” لنوازع تكتنزها الذات العربية التي أحبطت بتتالي الهزائم ، وهي بالتأكيد لم تكن نتاجا لضعف القدرات ، ولا لشح المخزون أو وهن الإرث ، بل كانت نتاجا لفقدان التناغم ما بين كل هذي العوامل وبين ” السطح السياسي ” الذي لم يكن قادرا على تفعيلها .
لم تكن كلمات حيدر التي سالت في تأبين ونوس صيف العام 1997 تحت عنوان عريض ” لمن تقرع الأجراس في عز هذه الظهيرة ” ، إلا تأبينا لتجربة جيل بأكمله ، ولهذا كله كانت الأجراس تقرع في ذلك الصيف الحار ، لكن قرعها الذي ينبئ بالرحيل ، كان يحمل بين جنباته بذورا لا بد ستنتش عندما يجيئها الربيع .
خاص للسلطة الرابعة