جديد 4E

اصنعوا شبكة

علي محمود جديد :

لن يستغرب الكثير من المتابعين والمهتمين – على الأرجح – عندما يشهدون بعد حينٍ غير بعيد كيف يتدحرج سعر الصرف هبوطاً، وكيف ستستجمع الليرة السورية قدرتها وتستعيد شيئاً فشيئاً قوتها الشرائية.

صحيح أنّ هذه المسألة في ظاهرها اقتصادية بحتة، وهي بكل بساطة تتعلق بحالتي العرض والطلب للقطع الأجنبي، ولكن مع الظاهر الاقتصادي لهذه المسألة، هناك جانب جوهري يمكن أن نتلمّسه مهما بدا خفيّاً، أو قابعاً وراء ضباب العرض والطلب الذي يتذبذب ارتفاعاً وانخفاضاً بصورة سعر الصرف المُعلن، وهو الجانب السياسي الذي يلعب دوراً مؤثراً في هذه القضية، واليوم نشهدُ تألقاً حقيقياً لهذا الدور قد يسبب ذلك التدحرج، دور يرسمه الجيش العربي السوري في إدلب وريف حلب الغربي، وقد يكون أبعد من ذلك..

فالعلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة وثيقة ومتلازمة، وكل منهما داعم للآخر، وأفضل الحالات التي يمكن أن تُترجم على الأرض هي حالة المواكبة بين السياسة والاقتصاد.

سورية – وعلى الرغم من الحرب والضغط والحصار – حافظت على براعتها المعهودة في الأداء السياسي، غير أن الاقتصاد لم يكن مواكباً لهذا الأداء، وفي معرض اللقاءات والاجتماعات التي تحصل مع دولٍ صديقة اعتاد الجانب الحكومي وجانب قطاع الأعمال على مقولة (السعي لتطوير العلاقات الاقتصادية إلى مستوى العلاقات السياسية) دون أن نلحظ أي شيء مؤثر من هذا القبيل على الأرض، تبقى الأمور الاقتصادية كما هي دون تسجيل مبادرات واضحة لمواكبة المستوى السياسي.

الاكتفاء بهذا القدر من أمنيات السعي، كأنه خلق نوعاً من البرود الاقتصادي واستسهال الحالة لتنسحب على الأداء الاقتصادي الداخلي، الذي يبدو مصاباً بنوع من الخمول والانكماش الطوعي عند المحركات الاقتصادية الحكومية والخاصة.

لاشك بأن للحكومة مهام وأعباء ضخمة فرضتها الظروف، وربما تكون هي معذورة – لجهة المبادرات – أكثر من قطاع الأعمال الذي يبدو في كثير من الحالات مكتفياً بالحد الأدنى الممكن الذي يجعله مستمراً، ويميل إلى حالة الاكتناز – ذهب وعقارات وأموال – أكثر بكثير من التشغيل والاستثمار، وهذ خطأ فادح ينعكس عليهم وعلى الجميع، لأن تجميد الأموال بهذه الطريقة يُفقدها وظيفتها الأساسية سواء في خلق الظروف الملائمة لتحقيق احتياجات الأشخاص، أو في تقوية الإنتاج في المجتمع بسبب قدرته على زيادة الإنتاج الخاص وهي هنا مُعطّلة، أو في تعزيز العلاقات الاقتصادية والمبادلات التي تربط بين الأفراد ببعضهم والمؤسسات ببعضها وبين الأفراد والمؤسسات معاً بسبب دور المال المؤثر، فتحريك الأموال بالمنحى الاستثماري يدير عجلة الاقتصاد وينعشه ويحسّن الأوضاع المعيشية.

نعتقد أن كل رجل أعمال بإمكانه أن يبادر وإلى حد كبير – وبدعم تشريعي ليس صعب المنال عند وضوح الصورة واشتداد العزيمة – لأن يخلق عشرات فرص العمل الجديدة عبر استثمارات إنتاجية وخدمية ليس بالضرورة أن تكون ضخمة، بل من الأفضل أن تكون صغيرة ومتوسطة (ورش وخطوط إنتاج صغيرة، محال تجارية، مطاعم، مكتبات .. الخ ) وتُدار بطريقة مبتكرة ذات جدوى، ومنتشرة في أماكن مختلفة، وستكون ذات عائد كبير على المبادر وعلى العاملين معه، وسيجد أن هذا المنهج أفضل بكثير من التفرج على الكنوز المختبئة، التي بدلاً من تجميدها ستكون ولاّدة لكنوز إضافية كمتوالية حسابية بلا نهاية.

فقط لنبادر ولنواكب العمل السياسي الذي يسير اليوم بخطى واثقة دون انتظار، كونوا فاعلين واصنعوا شبكة، ولا تكتفوا بالوقوف على الشاطئ تتأملون الأسماك وتشتهون صيدها.. أو تنتظرون من يصيدها لكم.

صحيفة الثورة – على الملأ – 8 تشرين الأول 2023م