جديد 4E

انتصـــار اللــواء علــي حيـــدر.. الأخيـــر

 

 كتبَ – أخيل عيد :

كان يوماً مشمساً في مطلع تشرين الثاني من عام 2006 وكانت وفود المعزين بوفاة والدي تئم المبرة القابعة أمام مقام الشيخ عباس بأشجار الزعرور القديمة الشاخصة أمام المقام يوم كان الموت ما يزال يحتفظ بهيبته ووقاره وواجبه الذي كان يأتي بالناس من على بعد مئات الكيلومترات

لفت انتباهي علاء بعد أن استقبلنا أحد الوفود بأن اللواء علي حيدر كان أحدهم ولأن صورة بزته العسكرية المموهة التي طبعت صورته في خيالي في المرات القليلة التي رأيته فيها كانت غائبةً لم أستطع أن أميزه أثناء الاستقبال على الباب ببنطال الجنز والقميص الأبيض الكلاسيكي

جمعته مع والدي صداقةٌ غريبه بين شاعرٍ يكره السلطة في كل أزمنتها ويحب الرجولة، وضابطٍ  ربما ليس له كثيراً في الشعر ولكن له الكثير الكثير في الصدق والرجولة وقيادة الرجال، كذلك كان بينهما شعرٌ أتذكر منه وصفاً لأيقونة إنجازه العسكري في استعادة مرصد جبل الشيخ

/ يحنو له ولجنده جبلُ اللظى   …  بالشيخِ بين صواعقٍ وسلاح /

بكل الأحوال تكرم أحد الضيوف علي بإخلاء المقعد على يمينه عندما لاحظ أن حديثنا قد طال وأنا أقف أمامه ولعله عرف من يكون الرجل، وكذلك جاء صديقه القديم جدي اللواء كامل عيد وجلس على يساره  وقال لي لاحقاً  تعليقاً على ما جرى يومها بأنه لم يتغير منذ عرفه للمرة الأولى عام 56 قرب بحيرة مسعدة وأعطاه كتاباً كان اللواء علي ما يزال يتذكر عنوانه بعد خمسين عاماً في ذلك اليوم  وكان حديثه الطويل يومها علامةً فارقة في ذلك العزاء لعل من المناسب في هذا المقام أن أسرد جزءاً منه إذ إنه يتصل بالتاريخ.

بدأ حديثه عما كان يحبه في أبي فوصفه بالرجولة ولعله كان يعني لسان صدقه ورأيه الصريح الذي كان يعتقد دائماً ويؤمن بأن من واجبه قول ذلك الرأي، وبانه يخلي مسؤوليته بقوله رغم قساوة ذلك الرأي الذي لم يكن يلقى تعقيباً كما تقتضي الحكمة والحلم.

منذ بدأ الرجل بالكلام كان يستطيع أن يأسر سامعيه بعينيه الطيبتين العميقتين ولغة جسده المتقنة وسبابته الموجهة وصوته الذي يندلع فيه قلبه بحمى الشباب وحيويتهم وشيئاً فشيئاً ساد الصمت وأنصت الحضور كلهم في المبرة المزدحمة لحديثه الموجه إلي بمستوى عالٍ من الصوت كما اعتاد أن يتحدث عبر تاريخه الطويل إلى جموع ضباطه وجنوده.

بدأ الرجل بلهجة شعبيةٍ محببة بذكر الامام موسى الصدر والتصاقه به أينما حل في لبنان حتى سأله بلهجته العسكرية :/أنت ليحقني بكل محل بروح عليه ..شو بدك مني؟/

كان الجواب /بدي منك كلشي/ طلب السلاح والتدريب والمال وأعطيته كل ما طلب وكان يعرف ممن يطلب وأن طلبه مجاب.

ثم أشار إلى انتصار تموز الذي كان ما يزال جديداً / لهيك عمي أنا إلي حصة بهالنصر/ وصدق الرجل.

ثم اندلعت في روحه غريزته العسكرية حين دعاه جدي مبتسماً لسؤالٍ في سياقٍ آخر وقال له مبرراً حديثه إلي  / اتركني أنا بحب الشباب أنا قادر أعمل منهم جيش من أول وجديد وكون أولهم / وكأن حمى القتال والرجولة في الجنوب أصابت غيرته وعنفوانه وأيقظت تاريخه القتالي المجيد فقال كلاماً كثيراً في الأوطان والأمة وهويته العروبية البعثية ؛ كلامٌ كان ليبدو عادياً لولا أنه صادرٌ عن اللواء علي حيدر .

اختلطت في ذهني صورة ذلك الرجل المهيب طويل القامة طويل الشاربين الذي يتناول الطعام قبلها في غرفتي العالية مع أركانه وضباطه وقوفاً إذ لم يكن في البيت سوى عددٍ قليلٍ من الكراسي فكان أن اختصر علينا استعارة بعضها من الجيران بقراره السريع بالأكل واقفاً .. كان منظراً مهيباً زرع في عقلي لوقتٍ طويل أن أصير ضابطاً ..تلك الفكرة التي أقلعت عنها عندما اكتشفت موروث أبي في دمي حول كراهية كل سلطه والرغبة بحريةٍ لا تأتمر بشيء

اختلطت تلك الصورة الفذة بصورة هذا الرجل المدني الذي يتحدث بكل هذا الزخم وهذا الصدق وهذا العنفوان.

بعدها ..افتقدت اللواء علي حيدر في هذه الحرب افتقدته كثيراً حين أصبح قتلة الناتو الاسلاميون على حدود مقر الوحدات الخاصة في القابون .. افتقدته في تلك المعركة البطولية التي دارت في مدرسة المشاة .. في حادثة استشهاد قائد القوات الخاصة في جسر الشغور حين غزتها قطعان الوهابية النجسة .. افتقدته في القصص الكثيرة التي سمعتها عنه ..بإصراره على صديقي المسؤول في النفط  بأن يوزع المازوت لكل قريته ( حلة عارا ) قبل أن يقبل بأن يؤمنه له .. بطريقة جمعه للرجال وتحضيرهم للمهام الصعبة في لبنان .. بضحكته الرجولية .. ببكائه أثناء قراءة رسائل أمه التي تطلب فيها الوساطة والمساعدة للناس والتي بقيت في الدرج السفلي لمكتبه ولم يستطع إليها سبيلا وكانت الشيء الوحيد الذي حزن على فراقه حين غادر مكتبه ذات صيف

بالفيديو الذي بثته إحداهن له وهو يردد بنفس نبرة أبي وجدي / حاجة الناس إليكم من نعم الله عليكم/

افتقدنا رجاله الرشيقين ذوي القبعات الحمر بأكمامهم المكفوفة وأسلحتهم الخفيفة وإرادتهم الصلبة التي تقلب المعارك وتعيد التوازن إذا طغى الميزان

أفتخر بأنني ذات يوم كنت شاهداً على انتصار اللواء علي حيدر الأخير .