كتبَ : عبد المنعم علي عيسى :
على الرغم من أن التوصيف الذي يلحظه العنوان الوارد أعلاه لمدينة حمص يرسم صورة لتلك المدينة هي أقرب ل ” سوق عكاظ ” الذي كان يوما ملفى للشعراء العرب زمن الجاهلية يقذفون من خلاله تراتيل الشعر التي سرعان ما تنتشر كما النار في الهشيم ، حيث النار هنا هي نار الشعر ، وأما الهشيم فهو المزاج العام الناقل لتلك النار بكفاءة تفوق تلك التي تمتلكها أسلاك النحاس في نقلها للكهرباء ، وهو ، أي ذلك التوصيف ، يعتد بنظير له سبقه في مراحل الزمن عندما أطلق على حمص اسم مدينة ” ديك الجن ” نسبة إلى شاعر عباسي كان قد قتل حبيبته ” ورد ” التي اتهمت بالوقوع في هوى غلام له ، فقضى بقية عمره ينظم الأشعار التي تظهر ندمه على ما اقترفت يداه ، ويعتد أيضا بالكم الهائل ، من الشعر و الشعراء الذي أثرت به ” ديوان العرب ” في مراحله التي مر بها كلها ، نقول على الرغم من ذلك كان ذلك
التوصيف من النوع الذي يريد إظهار حدث ليطغى على واقع هو الأهم ، والأدق هو أن حمص كانت تمثل ، كبيئة ومناخ و نسيج ، بيئة حاضنة ، وجامعة ، للشعر أكثر من كونها ” مفرخة ” للشعراء ، فهي اشتهرت بنواديها التي استقطبت العديد من الشعراء والأدباء الذين طبقت شهرتهم أصقاع الأرض الناطقة بالضاد من قماشة محمد مهدي الجواهري وطه حسين وشوقي بزيغ ، أكثر من شهرتها بشعرائها على أهمية العديد منهم ، ولربما كان الأخير هو الأبلغ في توصيف تلك الحالة عندما قال من على منبر ” نادي حمص الثقافي في إحدى استضافات الأخير له :

حمص تقع على الامتداد الصحراوي الذي ينفرج عنه المضيق الواقع بين سلسلتي جبال اللاذقية وعكار ، فهي عرضة لكافة أنواع الرياح التي تحملها الفصول الأربعة ، الأشجار عند مداخل المدينة محنية تحت قبضة الريح ، و لذا فإنه ليس مصادفة أن تكون حمص من أكثر المدن العربية إنجابا للشعراء و احتفاء بالشعر ” .
بالعودة إلى التوصيف السابق عينه ، الذي قلنا أنه كان أشبه بإظهار حدث ليطغى على واقع هام ، يمكن القول أن حمص ، ومنذ أن بدأت رياح التنوير تهب على المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، راحت تغذ الخطا في سياقاته كلها التي كان الشعر من بينها ، لكن السياقات احتوت أيضا على المسرح والبحث والفكر وصولا إلى الترجمة التي لعبت دورا بارزا في حركة التنوير سابقة الذكر ، وفي هذا السياق يؤكد د . هيثم يحيى الخواجه في كتابه ” المسرح في حمص ” أن المدينة كانت هي الأولى ، سوريا ، التي عرفت المسرح سابقة دمشق ، التي عرفته على يد أبي خليل القباني العام 1867 ، باثني عشر عاما .
نبيه سلامة:
كان نبيه سلامة ، المولود في حمص سنة 1908 ، نموذجا لجيل دفعته ظروفه ، وكذا طموحه ، للهجرة بحثا عن واقع أفضل إلا أنه لم يستطع أن يهجر مواطن النشأة وحجار حمص السود التي ظلت منزرعة في أعماقه حتى الرمق الأخير ، كانت البدايات في جريدة ” ألف باء ” الدمشقية ، و ” لسان الحال ” البيروتية اللتان عمل مراسلا لهما ، ثم كان قرار الهجرة إلى البرازيل التي عمل فيها ، جنبا إلى جنب عمله بالتجارة ، كمحرر في جريدة ” الرابطة الوطنية السورية ” ، ومن بعدها أعاد صلته بجريدة ” حمص ” التي راح ينشر فيها أخبار المغتربين ، فيما تشير السيرة الذاتية للرجل بأنه كان ميالا لأفكار القومية السورية ومسحورا بمطلقها أنطون سعادة الذي جايله عن بعد ، وتقول أيضا أن زيارات سلامة لحمص لم تنقطع لكنها لم تكن لتدوم طويلا ، ولربما كان التكرار ، والطريقة التي يحدث بها ، هنا هو لأخذ ” جرعة ” لازمة لضمان استمرار الحياة وفق رتمها المعهود .
سامي الدروبي
كانت سيرة حياة سامي الدروبي ، المولود بحمص سنة 1921 ، أقرب ما تكون إلى تجربة ناجحة ل ” تلاقح ” الثقافات والأفكار ، وعلى الرغم من أنه كان أديبا و ناقدا و ديبلوماسيا ، إلا أن صفته كمترجم كانت هي الطاغية على تلك السيرة ،
واللافت أن الطاغي الأكثر ، على الصفة والسيرة في آن ، هو ذهابه نحو الالتصاق بأدب فيودور دوستوفسكي التي بلغت تراجمه فيه 11 ألف صفحة ، والطريف هو أن إحسان البيات ، زوجته ، كانت قد وصفت تلك العلاقة ما بينها وبين الأخير ب ” الضرة ” حتى أنها ذكرت ذلك التوصيف أمام جمال عبد الناصر الذي التقاها عندما كانت تقيم مع زوجها في مصر زمن الوحدة.
كان سامي الدروبي ” مؤسسة كاملة ” وفقا لتوصيف طه حسين له ، وهو جاء نتاجا لجيل من الأدباء الراغبين في التغيير عبر استخدام مهاراتهم في الكتابة التي هدفوا من خلالها إلى كسر السائد والمألوف ، ولربما تميز عن مجايليه الذي تأثر بهم مثل أحمد بهاء الدين ومحمود أمين العالم ويوسف الشاتوري ومصطفى سويف ، بأنه كان الأكثر ولعا ، من بينهم بالكتابة والمواظبة على البحث ، وفي ذاك تقول السيدة إحسان البيات أنه قبل ساعة من رحيله ” أصر على الجلوس في المكتب قائلا أنه سيصلح كلمة كانت قد أقلقته في الليلة السابقة على الرغم من أنه كان يعلم أنه يقف على مشارف الأبدية ” لكنها ، تضيف السيدة إحسان ، هي ” لم تكن تعلم أنها في حضرة الوداع الأخير صبيحة 12 شباط 1976 ، قبيل أن تختم ” لكنه أصلحها ” ، أي أصلح تلك الكلمة .
فراس السواح
لم تنجب حمص ، ولربما سوريا ، باحثا منهجيا استطاع الحفاظ على منهجيته بالرغم من تلوناته السياسية ، التي بدأها ميالا للإسلام السياسي ثم وجد نفسه قريبا من الماركسية قبيل أن يحس في الخواتيم بأنه أقرب لأفكار القومية السورية ، مثل فراس السواح الذي يعتبر الأهم بين من بحثوا في الميثولوجيا و تاريخ الأديان .
بنى السواح ، المولود في حمص سنة 1941 ، منهجه على البحث في الدين ، ومتعلقاته ، كمدخل لفهم البعد الروحي عند الإنسان ومنشأه ، ودعا من خلاله إلى منع تقديس التراث كوسيلة ، لا غنى عنها ، لانتقاده و فهم السياقات التي جاء فيها ، وفي ذاك كانت له عشرات المؤلفات التي أثارت جدلا واسعا لم تهدأ زوبعته بعد ، بل ولا مقدرا لها أن تفعل عما قريب ، وفي السياق كان قد أطلق خلاصة ما رمى إليه عبر شعاره الشهير ” يجب أن لا نكون أسرى للماضي ” . والمؤكد أن ما ذهب إليه السواح كان فتحا جديدا في نمطية التفكير يمكن له ، فيما لو جرت له متابعات أو تحديثات ، أن يشق الطريق أمام خروج العقل العربي من رواسب الماضي التي أثقلت عليه حتى بات أسيرها بدرجة تكاد تشل حركته .
يحسب للسواح موقفه الذي تبناه عشية اندلاع الاحتجاجات السورية ربيع العام 2011 ، وعبره استطاع قرع ألف جرس إنذار متنبئاً بالمصير الذي نحن ذاهبون إليه ، فقد لحظ ، مبكرا ، في الشعارات التي سادت المشهد آنذاك بداية انزلاق في مستنقع الطائفية التي قال أنها ستطفو سريعا على السطح ، ثم راح ينتقد ، من على صفحته على فيسبوك ، الأسماء والشعارات التي كانت تطلق على أيام الجمعة في بداية الأزمة ووصفها بأنها سيكون بداية لفك الروابط الجامعة بين السوريين ، وعندما تعرض للتخوين ، من قبل مطلقي تلك الشعارات ، قام بإغلاق صفحته التي كان آخر منشور له عليها يقول ” في زمن القتلة والجنون الجماعي لأمة بأكملها تنسحب الحكمة إلى مخبئها ، ويغدو صوت الحق مثل نهيق حمار تائه في الصحراء ولا يسمعه أحد ، لذا فإن العاقل ينكفئ على نفسه و يختار الصمت ” .