جديد 4E

منعطف مدحت باشا الخطير

علي محمود جديد :

عُرِف التاجر الدمشقي – على مرّ العصور والأزمان – ببراعته في إتقان فنون التجارة، ليس فقط عبر تأمين وتقديم السلع المطلوبة للمستهلكين والتي يرغبون بها، وإنما من خلال الفنّ في التعامل الراقي مع الزبائن والتأهيل بهم بلطفٍ وابتسام، حتى يشعر الزبون أنه صديق حميم لهذا التاجر أو ذاك، وأنه يحظى بالاهتمام والاحترام حتى يحسب نفسه أنه مشمول بالعناية الكاملة من التاجر، وبتقديرٍ رفيع ربما لا يحظى به البعض في أي مكان آخر.

حتى ولو أن مثل هذه المظاهر تقوم في أغلبها على المجاملات فإنها تبعث الراحة في نفوس الزبائن وتُشعرهم بالرضا والانجذاب كي يتسوقوا مقابل هذا البهاء، وبعض التجار الأذكياء يذهبون إلى أبعد من ذلك ويأخذونها على محمل الجد فعلياً ويتعاملون مع الزبائن بهذا القدر من الاهتمام والاحترام إيماناً منهم بأن الزبون شريك أساسي في نجاح التاجر أو فشله بالنهاية.. وهذا صحيح وحقيقي، فعندما ينفضّ الزبائن من عند أعتى التجار لاشك بأنه سيواجه الفشل.

ولكن يبدو أن الكثيرين من تجار دمشق راحوا يتدهورون باتجاه منحى آخر، ويتخلون عن هذه الميّزة الراقية سواء عن قصد أم عن غير قصد، وهذه مخاطرة حقيقية بحقهم، وأعتقد أن مفاعيلها ستتراكم شيئاً فشيئاً وصولاً إلى الاصطدام بالفشل.

فمنذ أيام اتجهتُ إلى سوق (مدحت باشا) الدمشقي لأشتري قطعة لباس يشتهر ذلك السوق العريق بها دون غيره، وكنتُ قد هيأتُ نفسي للحصول على رشقاتٍ طيبة من التأهيل والتهليل وترحيب التجار بقدومي، ولكنني وصلتُ السوق، وخلعتُ قبعتي عن رأسي لأنه مسقوف بقوس معدني مرتفع يقي من أشعة الشمس، والقوس مُثقّبٌ بفتحات للتهوية، تسمح بدخول أشعة الشمس المضيئة، وتيارات الهواء التي تعطي أجواء مدحت باشا شعوراً بالانتعاش.

دخلتُ إلى أعماق السوق دون أن أحظى بأي تأهيلٍ ولا ترحاب، رغم أنني كنت أتوقف عند واجهات المحالّ وأتفحّص معروضاتها ولكن لم أجد سوى الازدراء وعدم الاهتمام، أنهيت تجوالي في السوق المقبي من أوله إلى آخره والنتيجة واحدة.. ازدراء وسوء اهتمام وعدم اكتراث..!.

قلتُ في نفسي: لعلّه كان عليَّ ألا أخلع قبعتي.. وربما لو أنني أرتديها لكان تجار سوق مدحت باشا قد انتبهوا إليّ وقاموا بالواجب.. فعدتُ إلى أول السوق وارتديتها ودخلتُ مرة ثانية.. وصرتُ أتباطأ أكثر أمام المحال لعلّني أسمع كلمة.. ولكن عبثاً.. فلم أكن على بال أحد لا بقبعة ولا بلا قبعة..!.

عدتُ من أول السوق مرة ثالثة.. ورحتُ في هذه المرة أتفحّص أصحاب المحال بماذا ينشغلون..؟ فرأيت أنّ أغلبهم ينكبُّ على جهاز الموبايل، وهم غارقون في ذلك العالم الافتراضي الذي أنساهم عالمهم الحقيقي.. فأهملوا زبائنهم وتخلوا عن ميزاتهم الراقية لينغمسوا في عالم فارغ يؤخّر ولا يُقدّم..!.

بكثير من الازعاج فعلاً انحدرتُ شمالاً باتجاه سوق البزورية لأشتري بعض البهارات اللذيذة وإذ بأصحاب محال البزورية يغرقون أيضاً بحالة كما هي حالة مدحت باشا.. ومن غيظي لم أشترِ شيئاً..!.

نعتقد أن على غرفة تجارة دمشق أن تنتبه إلى هذه الظاهرة وتسعى بكل قواها إلى أن تبثّ الوعي بين التجار وتبيّن لهم مخاطر هذه الحالة وانعكاسها السيء على النشاط التجاري والاقتصادي، وأن يكفّوا عن هذا الاستغراق على الموبايلات أثناء عملهم ويلتفتون إلى زبائنهم حفاظاً عليهم، ولا يُستبعد – بصراحة – أن تؤدي مثل هذه الحالة إلى فك الارتباط بين التاجر الدمشقي وبين العراقة التي بناها على مدى آلاف السنين، وباتت مهدّدة فعليّاً بالانهيار.. ولو بعد حين..!.

صحيفة الثورة – على الملأ – 7 آب – 2022م