جديد 4E

كاف الحبش وجريدة الثورة حزينتان لوداع معروف سليمان إلى الأبد..وداعاً يا عزيز القلب

علي محمود جديد

في أواسط تسعينات القرن الماضي كان يلتقيني أحياناً ذلك الشاب الوسيم في كريدور مبنى جريدة الثورة بقامته الطويلة وابتسامته التي كنت أشعر من عينيه الموشّحتين بالأخضر، أنها ابتسامة مشبعة بالحب، وما أن يراني حتى يتجه نحوي ليصافحني يداً بيد وبكل مودّة.

مبنى جريدة الثورة

لم أكن أعرف في البداية ذلك الشاب القريب على القلب، فبادر هو بلطفٍ وقال لي مرة: أنا اسمي معروف سليمان .. أعمل في دائرة الأخبار، وأنا من حماه – مصياف – كاف الحبش.

شكرته على لطفه وذوقه، وقلتُ له : تشرّفنا يا أستاذ معروف.

بعد فترة صار يزورني إلى مكتبي في دائرة الاقتصاد في الطابق السادس، ودائرة الأخبار كانت ولا تزال في الخامس .. يأتي خصيصاً ليسلّم عليّ، يجلس قليلاً بمودّة لا تخفي نفسها، أشرب معه فنجان قهوة .. ويذهب.

تعمّقتْ العلاقة بيننا عبر أحاديث ونقاشات عديدة كانت تتركّز حول الفضائل والأخلاق وقوى النفس البشرية، وكنت أشعر أن حديثه شيّق جداً، فهو متخصص في العلوم الإنسانية الفلسفية، ويحمل شهادة في الفلسفة من جامعة دمشق، فكان دائماً يوضح لي أشياء في هذا المجال لم أكن أعرفها فعلاً، فأوجّه له شكري الجزيل ليبدو وكأنه مغموراً بالسعادة.

الزميل الراحل معروف سليمان

مرة فاجأني عندما قال لي : من أجل وجودك هنا أشعر برغبة بالانتقال إلى دائرة الاقتصاد .. ما رأيك ..؟

قلت له : هذا يسعدني جداً إن كنت ترغب بالعمل في دائرة الاقتصاد، قد يكون صعباً في البداية ولكنه مجال واسع وشيّق . ثم شجعته على ذلك ووعدته بأن نتعاون سوية إن استطاع المجيء.

كانت علاقته جيدة مع المدير العام – رئيس التحرير آنذاك أستاذنا الفاضل ( عميد خولي ) الذي وافق له بسهولة على الانتقال إلى دائرة الاقتصاد.

كنت وقتها معاوناً لرئيس الدائرة، وكان رئيسها الزميل الغالي عبد الحميد سليمان، الذي تسلمها من أستاذنا العزيز أسعد عبود.

بدأنا أنا ومعروف نعمل سوياً في كثير من الأحيان، ومنفردين في أحيان أخرى، إذ لم يحتج إلى وقتٍ طويل ليدخل هذا العالم بكفاءة عالية ساعدَتْهُ على ذلك رغبته بالعمل والاهتمام الجاد والمخلص بالقضايا التي يطرحها، والذكاء الواضح الذي امتاز به.

ركزنا بشكل كبير أنا وإياه على القطاع العام الصناعي في البداية، وصار خبيراً حقيقياً بالفعل عند التعاطي مع هذا القطاع بسلبياته وإيجابياته وبخطواته الكثيرة المتعثرة .. بأرباحه وخسائره ونجاحاته، وطريقة إدارته المقيّدة بأنظمة وقوانين قديمة لم تعد مفيدة.

كان معروف يستطيع أن يميّز بدقة شديدة بين الحالات السيئة الناجمة عن تلك القوانين، والحالات الناجمة عن فسادٍ أو سوء إدارة، ولم يكن يرحم في كتاباته أي خطأ يكتشفه، فيواجهه بلا تردد، إذ يتناول القضايا بجرأة كبيرة، كنت أخاف عليه منها أحياناً، ولكنني أبارك له ما فعل، وأشدّ على يديه وهو يضحك بقهقهاته اللذيذة من سعادته جراء نشر هذه المادة الصحفية أو تلك، ولا سيما إن جاءته ردود الأفعال المعترضة على ما نشر، وكانت تأتيه العديد من هذه الردود، فقد استطاع ببعض كتاباته أن يقضّ مضاجع العديد من وزراء الصناعة فعلاً.

زين معروف سليمان

في نهاية التسعينات وبدايات هذا القرن بدأت وإياه بعملٍ إعلامي مشترك كان فريداً من نوعه في تلك الأثناء، فقد توليت إدارة تحرير مجلة لإحدى جهات القطاع العام، في وقتٍ لم يكن مسموحاً فيه لأي وسيلة إعلام خاصة في سورية، لا إذاعة ولا تلفزيون ولا صحف ولا مجلات، فتفردنا بهذه المجلة – كان اسمها الشبكات – وقد أبلينا فيها بلاءً لافتاً وراح صداها يتردد في مختلف أنحاء البلاد.

يمكنني القول إن عملنا في هذه المجلة شكّل منعطفاً هاماً لحياتنا، ولاسيما بالنسبة لمعروف، إذ تمكن من خلالها أن يُحلّق عبر منحيين، المنحى الإعلامي، ومنحى تحسين الدخل، فالمجلة وفّرت له ذخيرة معلومات ضخمة، وباباً جيداً وشريفاً للدخل، فكافح كثيراً وناضل وتعب واستمر بذلك حتى بعد توقف المجلة، التي قضينا معها أياماً سعيدة بكل تفاصيلها سواء اتفقنا هنا أم اختلفنا هناك، لأن الحب والنوايا الطيبة كانت هي القاسم المشترك بيننا دائماً.

ومع ظهور الإعلام الخاص الذي سُمح له بالظهور بقانون إعلام جديد، استمر معروف مع العديد من المجلات مكافحاً بلا هوادة لتحسين وضعه وسط فقدان الأمل بقدرة الراتب على تحسين مستوى المعيشة، ومع هذا الكفاح كان مصرّاً على الاستمرار بمهنيّته العالية دون أن يخشى بالحق لومة لائم، وكان بالفعل صحفياً بارعاً، له لغته الخاصة وأسلوبه المتفرّد في تناول القضايا، وقد امتاز بطريقة لاذعة في نقد السلبيات والفساد والفاسدين.

كم أنا حزينٌ اليوم لفقدان هذا الأخ والصديق والزميل الغالي ( معروف سليمان ) فقد غادرنا وغادر إلى الأبد جريدة الثورة الحزينة عليه هي وأصحابه وأصدقائه وزملائه، كما غادر كاف الحبش الحزينة هي عليه اليوم أيضاً .. ستكون حزينة عليه بناسها الطيبين وبأشجارها الباسقة وأراضيها الخضراء وسواقيها وينابيعها العذبة وطرقاتها الضيقة .. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله ومحبيه وولده الغالي زين .. الصبر والسلوان، ولا اعتراض على قضاء الله وقدره سبحانه .. رحمك الله يا معروف .. رحمك الله يا صديقي أبو الزين الغالي .. لقد سبقتنا .. ونحن إليك قادمون.