جديد 4E

تريثوا قليلاً .. فلاحة البادية وزراعتها مغامرة تؤدي لكارثة بيئية واقتصادية واجتماعية

يعلمون ما لا نعلم

كتبتُ منذ أيام زاوية كانت بعنوان ( ازرعوا البادية ) ولا أنكر أنني عندما شرعتُ بوضع هذا العنوان راحت يدي ترتجف، لأنني أدرك تماماً أنها دعوة باطلة، وأقرُّ بأنني لم أكن أعنيها تماماً بمقدار ما شعرتُ أنها دعوة تحريضية أملتُ من خلالها التأثير على مربي الأغنام لعلّهم يستشعرون بشيء من الخطر عليهم، إزاء الأخطاء التي يرتكبونها بحق وطنهم، عندما شرعوا هم بالتعاون مع المهربين واستأنسوا لهم، فراحت تُهرّب الأغنام خارج البلاد، الأمر الذي انعكس على السوق بشكل كبير، حيث قلّ العرض واشتدّ الطلب على اللحوم، فبدأت الأسعار ترتفع .. ومن ثم ترتفع .. إلى أن اشتعلت .. وصار اللحم حلماً عند الكثيرين بعد أن ارتفعت أسعاره فوق طاقة أغلب الناس على شرائه.

في هذه الزاوية استشهدت بجهود تبذلها الدولة من أجل مصالح المربين الذين سُخّرت لهم البادية بالكامل من أجلهم وأجل أغنامهم، وضربتُ على ذلك مثلاً بتلك الجهود البحثية التي كان يبذلها المهندس الزراعي الخبير والمتألّق ( عبد الرحمن قرنفلة ) وكيف كان مسؤولاً عن مشروع بحثي يعنى بتكثيف عمليات الإخصاب عند الأغنام بطريقة صناعية مدهشة، فالغنمة التي كانت تلد مولوداً واحداً أو اثنين .. صارت بهذه الحالة تلد ثلاثة أو أربعة مواليد .. ! وذكرتُ أنني رافقته بجولة ميدانية على بعض مطارح هذه التجربة في البادية السورية.

المهم كتبتُ هذه الزاوية من منحى تحريضي .. وحسب فعلاً، وأرسلتُ رابطها للصديق العزيز الأستاذ عبد الرحمن قرنفلة لأسمع رأيه .. وكنتُ أتوقّع معارضته لهذا الطرح .. بل كنتُ على يقينٍ من ذلك لأنني أعرف كيف يُفكّر بهذه المسائل، وكان الأمر كذلك .. معارضة شديدة .. وراح يشرح.

بيّنتُ له وجهة نظري التحريضيّة، غير أنه لم يستأنس للفكرة معتبراً أن البادية مجتمع بيئي مغلق تتعايش فيه النباتات مع الحيوانات والجمادات بتوازن مطلق تحت ظروف بيئية تتسم بصيف حار وجاف وشتاء شديد البرودة وهطل مطري محدود موزع عشوائيا على طول موسم الشتاء الذي يتصف بالأمطار العاصفية فضلا عن التباين الشديد في درجات الحرارة بين الليل والنهار. …وموارد مائية شحيحة لا تساعد على الزراعة بالمفهوم العام اطلاقا.

وبشأن تصدير الأغنام أو تهريبها رأى المهندس قرنفلة بأن تهريب الاغنام علاجه الوحيد تشجيع المربين وتوفير متطلبات عيشهم القاسي وفي المقدمة العلف لأغنامهم وتوفير الامان والاستقرار لهم وتشجيعهم من خلال فتح باب التصدير بصورة شرعية.   وقال قرنفلة : ثق تماما ما سيخرج من البلاد من خراف سيخرج وأمامه خياران:

إما الخروج الشرعي وهذا يحفز المربين على توسيع التربية

أو خروج غير شرعي لا ينال من عوائده المربي الا القليل الذي يدفعه لهجر المهنة.

أدهشني الأستاذ عبد الرحمن بهذا الكلام الذي كنتُ أشعر به، ولكن أعرف بأنني لا أُتقن التعبير عنه، ومن هنا تأتي أهمية الخبراء والمختصين، وضرورة الركون لآرائهم، لأنهم دائماً يعلمون مالا نعلم.    

عندها طلبتُ من الأستاذ عبد الرحمن أن يزوّدنا بدراسة شاملة عن أوضاع البادية السورية، من حيث الواقع والحلول المناسبة لتحسين أوضاعها .. فتكرّم علينا بهذه الدراسة المخصصة للسلطة الرابعة ، والتي عبّر فيها عن الخوف من زراعة البادية، وبدأها بعنوان يحاكي زاويتي التي أشرتُ إليها قال فيه : ( تريثوا قليلاً .. فلاحة البادية وزراعتها مغامرة ) وهي مقالة تأتي كمقياس حقيقي يمكن الاستعانة به في قياس ما علينا فعله.

علي محمود جديد      

•     البادية السورية : وعاء بيئي اقتصادي  استثماري ذو حساسية مفرطة…

•     نحو مؤتمر فني وطني لتنمية وتطوير البادية السورية

السلطة الرابعة – خاص – عبد الرحمن قرنفلة

المهندس الزراعي الخبير
عبد الرحمن قرنفلة

البادية السورية …محيط حيوي شبه مغلق تتفاعل فيه مكوناته الحية / نباتية وحيوانية وبشرية / مع الجمادات / تربة وصخور وسهول وجبال وهضاب /  والمناخ / حرارة ورطوبة وموارد مائية محدودة  / بعلاقات توازن دقيق يحفظ استمرار الحياة ، في بيئة مفرطة الحساسية تجاه اي تغيرات في العلاقات المتبادلة بين مكوناتها الحية وغير الحية، وخاصة المياه فهو من اقل العناصر المتاحة الا انه الأكثر تأثيراً في البيئات الجافة،  وقد حافظت على خصوصيتها عبر آلاف السنين .

و حاول الإنسان في البادية السورية – في عهد زراعته المبكرة بحكم بدائيته – أن يكون جزءاً من المحيط الحيوي ، مستعملاً الموارد المائية لتأمين حاجاته المعاشية، فلم يَجُرْ على الطبيعة، ولم يستنفذ مواردها، بل قننها، وجدولها، وروّضها مكوناً نموذجاً من التوازن بينه وبين موارده الطبيعية.

في حين دأب الإنسان في عهد زراعته الآلية الحديثة على محاولة اخضاع الطبيعة لمطامعه، مراعيا مصلحته الذاتية المؤقتة والمباشرة على حساب المصلحة العامة بعيدة المدى، فعمل على استنفاذ المياه السطحية في البادية، وحفر الابار عشوائيا فيها، وهو في طريقه الى استنفاذ المياه الجوفية المتجددة وغير المتجددة، وفلح التربة وحرم الارض من نباتاتها ذات الصف الاول من الناحية التغذوية ليترك للنباتات الغازية دنيئة القيمة الغذائية حرية الانتشار والسيطرة، ليصنع كارثة من اخطر الكوارث الطبيعية .

*من الارشيف الصديق الصحفي علي محمود جديد والصحفية سوسن خليفة في زيارة للبادية السورية 1994*

•       كلما شرعت بالكتابة عن البادية يحضرني مقولة ذلك البدوي الطاعن في العمر عند لقائي به في اعماق باديتنا ثمانينات القرن الماضي حيث كنا فريق عمل من البحوث العلمية الزراعية  نجوب البوادي والقفار سعيا لإماطة اللثام عن مجهول، أو بحثا عن حقيقة يقينية تساعد في رسم خطط واقعية لتنمية انتاج هذا الخزان الاقتصادي الضخم، تدعمنا آلة اعلامية نشطة قوامها صحفيون وصحفيات  آمنوا بوطنهم وتحملوا معنا عناء وارهاق الترحال في مساحات شاسعة يندر فيها الماء كما يندر وجود البشر  وكانوا ينقلون بأمانة وصدق ما يرصدونه من مصاعب العمل وواقع هذه القطعة من بلادنا ويدعمون ذلك بآرائهم وخبراتهم ….

وعند سؤالي عن اسباب تدهور المراعي كعنوان اساس قال ذلك العجوز الذي عاش البادية ثمانين عاما ونيف / البئر والدولاب يا بني ..هما المسؤولان عن تدهور واقع مراعي البادية / ..

*من الارشيف ..زيارة مربي الابل في بادية حماه*

هذه العبارة حفزتني للدخول في تفاصيلها وتوسيع دائرة البحث والعمل للحصول على المعلومة من فم اصحابها مباشرة . فتابعت مسيرتي في البادية التقي الاخوة مربي الاغنام والماعز والابل من البدو الرحل ومن البدو الذين استقر بعضا منهم في بيوت سكنية مبنية على اطراف البادية او في تجمعات سكنية في المناطق الخصبة منها / الفيضات / القابلة ظاهريا للزراعة بحكم توفر مورد مائي يتشكل من مياه السيول فيها عقب موسم الهطل المطري ليحصلوا على موسم واحد من زراعة الحبوب كل 5- 6 مواسم …وعايشت البادية في مراحل مختلفة من تبدل الفصول والمواسم عليها  .

البادية خزان اقتصادي استثماري ضخم….. ولكن !!!!

تشكل البادية الأراضي (غير الصالحة لزراعة محاصيل للاستهلاك البشري ) بحكم محدودية مواردها المائية ( متوسط الهطول المطري 120 ملم / سنة ) وطبيعة تربها، وتضاريسها ، والمجتمعات  والعشائر النباتية السائدة فيها ، والتباين الكبير في درجات الحرارة بين الليل والنهار ، وتمثل مساحتها  حوالي 55 % من مساحة سوريا وتصنف تحت مسمى المراعي الطبيعية أو البادية ، حيث تبلغ مساحتها حوالي 10.5 مليون هكتار . وهي تزخر بمجموعات نباتية فطرية متنوعة  غير ذات قيمة نقدية  إلا نادراً ، تقوم قطعان الاغنام والماعز والابل  بالتغذي عليها  وتحويلها إلى بروتين حيواني عالي القيمة الحيوية  والنقدية ، من لحوم  وحليب ومشتقاته ، وجلود وصوف ووبر وشعر ، وتعتبر الثروة الغنمية من حيث عددها من أكبر مكونات الثروة الحيوانية السورية ،  إذ تشكل أعدادها 89% من إجمالي أعداد الثروة الحيوانية المنتجة للحوم الحمراء ، بينما تمثل أعداد الماعز 6% تقريباً والأبقار نحو 5%،  وتشير البيانات الاحصائية الى ان  أعداد الاغنام وصلت عام 2007 إلى نحو 22.865  مليون رأس، بينما تدهورت إلى 15.511 مليون رأس عام2011، ثم ارتفعت تدريجياً إلى 17.858  مليون رأس عام2013. ليصل عددها وفق قاعدة بيانات منظمة الاغذية والزراعة الدولية الى 17.8 مليون راس عام 2014 الى نحو 18.11 عام 2016 ويستقر عند 17.71 مليون راس عام 2018 .

وتعتبر البادية بمراعيها الطبيعية المصدر الرئيسي لتغذية الاغنام السورية . ولعمل آلاف الاسر البدوية التي اتخذت من رعي الاغنام مهنة رئيسية لها اضافة الى عدد كبير من المهن التي تتعلق بنشاط تربية وتجارة الاغنام ومنتجاتها ومستلزماتها

ويلاحظ أن الخط البياني لتطور أعداد الأغنام يتضمن عدداً من الجيوب تمثل عمق التبدل والتذبذب في أعدادها، إما نتيجة عدم دقة الأرقام الإحصائية أو بفعل تدهور أعدادها نتيجة تدهور واقع المراعي الطبيعية وتراجع المتاح من الأعلاف، إذ لم تسجل السلطات البيطرية السورية خلال الفترة الزمنية المشار إليها أية جوائح مرضية يمكن أن تؤثر على تلك التبدلات.

و تؤدي البادية دوراً مهماً في بنية الاقتصاد السوري وديناميكيته ، فهي توفر البروتين الحيواني (لحم وحليب) للاستهلاك المحلي ، وتؤمّن فرص العمل ،  وتساهم في زيادة الدخل ،  وتوفر موارد محلية لتغذية الحيوانات ( مراع طبيعية). وتشكل مصدراً للقطع الأجنبي لأن منتجاتها من الأغنام سلعة تصديرية لها أسواق تقليدية مستمرة ، إضافة إلى دورها في توفير السماد البلدي للمحاصيل الزراعية وفي تحسين البنية الفيزيائية والكيميائية لأراضي المراعي ،  وتأمين الجلود والصوف للصناعات المحلية ، اضافة لكثير من الصناعات البدوية المتمركزة بالبادية . فضلاً عن تدوير حركة الاقتصاد بفعل مدخلات الإنتاج ومخرجاته.

وسورية تشتهر بغناها بعرق أغنام العواس،  وتشكل لحومها المصدر الأول للحوم الحمراء للمواطن السوري ( 74 % عام 2005 – 66% عام 2013 من إجمالي ما يتناوله الفرد من اللحوم الحمراء)،  كما تشكل نافذة تصديرية واسعة ومفتوحة ، فقد بلغت نسبة صادرات الأغنام من إجمالي قيمة الصادرات الزراعية نحو 16% عام 2004. وبقيمة نقدية تجاوزت 236 مليون دولار امريكي انذاك .

سورية في طليعة الدول المنتجة و المصدرة للأغنام في العالم

كانت سورية تحتل المرتبة 15 بين الدول المنتجة للأغنام في العالم ،  وتعتبر في طليعة الدول الخمس الأولى في تصدير الأغنام في العالم ايضا، وتقليدياً ووفق المؤشرات الفنية المعتمدة من قبل وزارة الزراعة تشكل ولادات الأغنام نحو 80% من عدد الإناث المنتجة،  وتقع بحدود 15.6 مليون ولادة نصفها من الذكور، وبعدد يصل إلى 7.8 مليون رأس، وتبلغ نسبة نفوق المواليد نحو 10% وبما يساوي 780 ألف رأس من الذكور، وبذلك يتبقى 7 ملايين رأس من الذكور معدة للتسمين والذبح، وهناك نسبة من الإناث غير اقتصادية للتربية يتم تنسيقها وتسمينها وذبحها وتبلغ نسبتها 20% من إجمالي القطيع وتساوي نحو 3.9 ملايين رأس سنوياً، وبذلك يكون عدد الرؤوس المعدة للتسمين والذبح نحو 11 مليون سنوياً يُذبَح منها محلياً نحو 8 ملايين رأس في المسالخ وبعض المنشآت إضافة إلى 500 ألف رأس تذبح بمواسم الأعياد وغيرها من المناسبات، وهذا يسمح بوجود 2 مليون رأس جاهزة للتصدير سنوياً دون أن يؤثر ذلك على السوق المحلية.

ومن الثابت أن أكثر من 80% من مربي الأغنام هم من البدو الرحل الذين يجوبون البادية طلباً للمراعي لأغنامهم ، ويحصلون على دخلهم من خلال إنتاجها من الألبان والأجبان والسمن والصوف والخراف، وهذه الخراف هي ذكور الأغنام التي يقومون بتربيتها لغاية شهر أيار من كل عام، ثم يجري بيعها في أسواق الأغنام خلال شهري أيار وحزيران من كل عام، حين تنخفض أسعار الخراف خلال هذه الفترة بسبب كثافة العرض إلا أن عمليات التصدير تدعم تلك الأسعار بشكل ضئيل مما يساعد المربي على تحقيق سعر مقبول يغطي تكاليف التسمين المرتفعة. وفي حال توقف التصدير فإن أسعار مبيع الخراف تنخفض ويتعرض المربون للخسارة، وعندما تكون الخسائر كبيرة فإن المربي يضطر لبيع أغنامه كاملة ويتجه إلى مهنة ثانية، مما يساهم في خفض أعداد الثروة الغنمية، كما أن منعكسات وقف التصدير الخطيرة تكمن في تحول المستوردين إما إلى أسواق ثانية أو إلى البحث عن عروق أغنام توفر استقراراً في الواردات، وبالتالي خسارة سورية لأسواق تصدير تعتبر استراتيجية للاقتصاد الوطني. حيث وصلت قيمة صادرات الاغنام كما اسلفنا  236 مليون دولار امريكي اضافة الى قيمة صادراتها من السمن والاجبان ومشتقات الحليب .

وبطبيعة الحال تعكس تلك التبدلات في أعداد الأغنام تبدلاً في نصيب الفرد من لحومها ومنتجاتها الأخرى من جلود وصوف، كما تعكس اضطراباً في صادراتها مما يجعلها سوقاً غير مستقرة ولا يمكن الاعتماد عليها من قبل المستوردين ويجعل من سوريا مصدراً محتملاً غير مستقر للأغنام العواس.

ادارة أراضي البادية :

من أبرز خصائص البادية الشامية شدة الجفاف المقرونة بقلّة أمطار تراوح بين 100 و200مم، مع ارتفاع في درجة حرارة النهار إذ تتجاوز الأربعين درجة مئوية، وقد يصل في حالات نادرة إلى الخمسين درجة مقرونةً بشدة برودة الليل. يضاف إلى ذلك توافر تربة غضارية نسبة أملاحها المنحلة مرتفعة، كالصوديوم والبوتاسيوم والفوسفات والمغنسيوم وغيرها، وتربة رملية محدودة. ولئن استطاع بعض النباتات (نحو 200 نبات) تحمّل هذه الشروط القاسية بتحويل بنيتها التشريحية إلى بنية مقاومة للجفاف، فالأمور ليست بهذه السهولة فيما يتعلق بعالمي الحيوان والإنسان. فالحيوانات تتجنب قسوة البادية بتغير كثير من أنماط سلوكها، كما أن الإنسان الذي يتعذر عليه التكيف الفيزيولوجي والتشريحي قد استطاع تطوير وسائل حياته ليتمكن عبر التاريخ من العيش في ربوع البادية.

في البادية نجد مجموعات من الاشجار والشجيرات والاعشاب المختلفة التي تكيفت على العيش والتكاثر تحت ظروف بيئية سائدة ذات خصوصية، وتتكامل فيما بينها بعلاقة منفعة متبادلة، ونجد الاغنام والماعز والابل والغزلان والحيوانات البرية العاشبة، ولكل منها سلوك في الرعي ونباتات يتغذى عليها تضمن استمرار التوازن في المراعي .

 كما نجد في البادية موارد مائية محدودة ونادرة منها ما هو متجدد ومنها القابل للنفاذ . كما نجد الحيوانات المفترسة التي تحافظ على التوازن الطبيعي بين الكائنات الحية . ونجد الانسان ممثلاً بالبدو الرحل المنتشرون على مساحات البادية حيث يعيش فيها نحو 650 ألف بدوي يربون نحو 13 مليون رأس من الماعز والأغنام.

تاريخياً كانت ادارة اراضي البادية السورية تخضع لسيطرة العشائر البدوية، التي اتخذ كلا منها مساحات معروفة الحدود، تقوم كل عشيرة بتربية الاغنام والماعز والإبل فيها، وكانت كل عشيرة تقوم بتقسيم المساحة التي تخضع لإدارتها الى اربع اقسام تقوم برعي حيواناتها خلال فصل الربيع كل عام في قسم من تلك الأقسام، وتمنع الرعي في باقي الاقسام وتقوم على حمايتها بهدف منح تلك المساحات فرصة لاسترداد نباتاتها دورة حياتها . ولم يكن عدد الحيوانات يشكل ضغطاً على وحدة المساحة من المراعي الطبيعية التي كان يسود فيها نباتات الاوج النباتي بوجود حيوانات برية عاشبة كالغزلان وحيوانات مفترسة كالضباع والذئاب والثعالب وغيرها تقوم بدورها في حفظ التوازن الحيوي الفطري.

وغالبا ما حدثت صدامات بين تلك العشائر نتيجة خلافات وتجاوزات من بعض العشائر على اراض تقع تحت ادارة غيرها .

هذا الواقع دفع الحكومة لاستصدار قانون تم بموجبه تسجيل ملكية اراضي البادية السورية باسم الجمهورية العربية السورية وتم اعتبارها مراع طبيعية متاحة للجميع / مشاع /. وتم الغاء دور العشائر البدوية في ادارة المراعي الطبيعية لتتولى ذلك الامر مديرية البادية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي والتي تحولت لا حقاً الى الهيئة العامة لتنمية وتطوير البادية.

وتقليديا اشتهرت ادارة حركة الاغنام في سوريا بما يعرف بظاهرتي / التشريق والتغريب / والتي بقيت مستمرة حتى عهد قريب حيث كانت العشائر البدوية تتجه بأغنامها مع بداية الربيع / مطلع نيسان/  شرقاً باتجاه البادية لترعى النباتات الطبيعية التي تظهر عقب موسم الهطول المطري بشكل مجاني  وتستمر بالرعي حتى جفاف النباتات وفقدان الموارد المائية نهاية حزيران .. لتنسحب الاغنام قسرياً تحت وطأة فقدان الاعلاف والموارد المائية، وتتجه غربا الى مناطق الزراعات الصيفية لترعى مخلفات حصاد المحاصيل من ذرة صفراء وقطن وبقايا ومخلفات الخضار والفواكه مجانا، أو لقاء بدل نقدي متواضع، وتستمر في ذلك حتى بداية الشتاء لتعود الى قواعدها على اطراف البادية، معتمدة التغذية على الحبوب العلفية وباقي مواد العلف ذات القيمة النقدية المرتفعة .

هذه الظاهرة كانت تمنح نباتات البادية فرصة لتستعيد دورة حياتها، وتعيد نشر بذورها، وتعاود نشاطها في الموسم القادم .

لماذا البئر والدولاب ..؟

كان جفاف نباتات المراعي وفقدان موارد المياه خلال اشهر الصيف دافعاً رئيسياً لحركتي التشريق والتغريب وبعد ان اصبحت ارض البادية مشاع للجميع عملت الدولة على حفر آبار في مناطق متفرقة لمساعدة المربين وتوفير مياه الشرب لحيواناتهم ولحاجاتهم المعيشية، وبانتشار وسائط النقل وخاصة صهاريج المياه والشاحنات تبدلت طبيعة حركة التشريق والتغريب، كما تبدلت فترة مكوث وبقاء الاغنام والماعز والإبل في البادية، حيث استقر عدد كبير من البدو حول ابار المياه ولم يغادروا البادية لسنوات  طويلة .  وفي حال توقف اياً من آبار المياه كانت الصهاريج تنقل المياه من القرى المنتشرة على اطراف البادية الى عمقها بيسر وسهولة، كما تقوم الشاحنات بنقل الاعلاف من المدن الى البادية في فترات انعدام نباتات المراعي الطبيعية ..

هذا الواقع مترافقا بزيادة اعداد الاغنام شكل ضغطا كبيرا على المراعي وادى الى تجريد مساحات واسعة من نباتاتها نتيجة الرعي المبكر للحيوانات وعمليات الاحتطاب التي كان يقوم بها البدو لتأمين مصادر للطاقة لزوم الاعمال اليومية من طبخ وتدفئة وغسيل وغيرها اضافة الى فلاحة الفيضات الخصبة بالبادية وزراعتها بالحبوب العلفية / القمح والشعير/ علما انه في كل خمسة الى ستة مواسم يمكن الحصول على موسم اقتصادي واحد ….وقد وثقت حالات كثيرة تظهر تشكل مساحة من الارض على شكل  دائرة نصف قطرها حوالي 15 كم حول عدد من  ابار مياه في البادية  خالية من النباتات نهائياً

ان عملية الفلاحة تلك / كسر اراضي البادية / ادى الى ازالة اعداد كبيرة من الشجيرات المعمرة دون رجعة وهذه الشجيرات يعيش في ظلها مجموعة من النباتات العشبية في علاقة تكامل، وأدى زوال الشجيرات الى غياب تلك الاعشاب  ومن جهة ثانية ساهم انتشار وسائط النقل بالاستغناء عن الابل كواسطة نقل والتي ادى غيابها الى انتشار النباتات الشوكية التي يتعذر على الاغنام والماعز رعيها . اضافة الى ان حركة السيارات العشوائية في اراضي البادية كانت تسبب بتجريد مسارات السيارات من النباتات تماما.

هذا الواقع ساهم بخروج مساحات واسعة جدا من مراعي البادية من دائرة الاستثمار وأدى الى انتشار ظاهرة العواصف الرملية التي تجتاح بعض المحافظات الشرقية مثل دير الزور والرقة والحسكة .

جهود حكومية مزمنة ولكن !!

بدأت الحكومات السورية تبدي اهتماما بواقع البادية منذ زمن بعيد، وحاولت الخطط المتعاقبة التركيز على تنمية هذه البقعة من الوطن، وتم ادخال المدارس التعليمية إلى عمق البادية منذ خمسينيات القرن الماضي، وتم إقامة مراكز بيطرية ثابتة، إضافة إلى وحدات بيطرية متنقلة لمتابعة الواقع الصحي للأغنام، كما تم تشجيع البدو على إقامة تجمعات سكانية بالبادية يسهل تخديمها، وأُقيمت مراكز نموذجية لتربية الاغنام في البادية بهدف تعليم البدو على الطرق الفنية الحديثة في انتاج منتجات الأغنام، كما تم اقامة مراكز بحث علمي مخصصة بتطوير اغنام العواس، وسمحت بإقامة مشاريع استثمارية لتربية الاغنام بالبادية تعتمد الطرق الفنية الحديثة في الانتاج فضلاً عن اقامة السدود والسدات المائية كلما امكن، والعناية بآبار المياه وشق الطرقات عبر البادية، وانشاء محميات طبيعية على مساحات واسعة من الأراضي.

 ومن جانب آخر عملت وزارة الزراعة على زراعة عشرات الملايين من النباتات الرعوية بهدف اعادة الغطاء النباتي الى سابق عهده، ولكن على ارض الواقع لم تحقق اي نجاحات تذكر خارج مراكز البحث العلمي ..!

مستقبل البادية :

إن حقائق البيئة والجغرافيا والتاريخ والطبيعة تؤكد أن أراضي البادية السورية تصلح كمراع طبيعية فقط، وهي بذلك تشكل خزانا اقتصاديا استثماريا ضخما للغاية، وأي تفكير يخالف هذا التوجه هو مغامرة تؤدي لكارثة بيئية واقتصادية واجتماعية .

لا يمكن إغفال دور الإنسان في تصحر البادية، فقد أسهمت وتسهم الزراعة المكثفة والرعي الجائر والاحتطاب فيها في انجراف التربة.  وتدمير بيئة المراعي . وفعلت السياسات الحكومية غير الدقيقة فعلها في تدهور الطاقة الانتاجية للمراعي الطبيعية وأصبحنا امام مشهد لا يرضي على الاطلاق وفي سبيل تصويب الواقع نرى ضرورة عقد مؤتمر فني وطني حول البادية السورية، يشارك فيه نخبة من البدو الرحل ومن سكان البادية الحقيقيين  / وليس ممثلين عنهم لا يقيمون بالبادية / اضافة الى مختصين بعلوم البيئة والنبات والحيوان والمياه، وممثلين عن الجامعات السورية ولا سيما كليات الهندسة الزراعية والطب البيطري ومراكز البحث العلمي، ونخبة من خبراء المراعي والثروة الحيوانية ممن خبروا البادية وعملوا فيها  بهدف دراسة وتحليل الواقع الراهن، ودراسة وبحث نقاط النجاح والفشل السابقة  ووضع خطط استراتيجية لتنمية وتطوير القدرات الاقتصادية الضخمة للبادية السورية وعلى صانعي القرار السياسي، وعلى أصحاب المنفعة الحقيقية أن يفكروا جدياً وإيجابياً في الاستفادة من القدرات الاقتصادية الكامنة في البادية، وتطوير استثمارها بما يتفق مع شروطها البيئية.