اقتصادها الحقيقي كان المتضرر الأول في المرحلة السابقة .. سورية بحاجة إلى إعادة ترتيب أوضاعها الإنتاجية وبسرعة

 

 

الاقتصاد الحقيقي

كتبه د.عامر خربوطلي

وهل يوجد ما هو غير حقيقي أو وهمي في عالم الاقتصاد وما هي أهمية النوعين أي الاقتصاد الحقيقي والآخر غير الحقيقي بالنسبة لسورية..؟

يمثل الاقتصاد اليوم عالماً متداخلاً من الانشطة والفعاليات والقطاعات يمكن تقسيمه إلى نوعين رئيسيين : الاقتصاد الحقيقي، والثاني هو الاقتصاد غير الحقيقي، ورغم أن كلاهما يُظهر نشاطاً وقيماً مضافة إلا أن طبيعة كل واحد منهما وأثره على حياة الأفراد مختلفة إلى حدٍ ما.

الاقتصاد الحقيقي هو الجوهر الأساسي للحياة الاقتصادية ويشمل جميع العمليات والأنشطة التي ينتج عنها سلع وخدمات ملموسة مباشرة من زراعة وصناعة وحرف وإسكان وتعمير، وهو الاقتصاد الذي يخلق الأعمال وينتج الغذاء والدواء ويوفر الكهرباء ويبني المنازل ويصنع الأدوات والتجهيزات ويُشغل المصانع، إنه الاقتصاد الذي يعتمد على العمل الفعلي والإنتاج، ويُقاس غالباً بالناتج المحلي الإجمالي والنمو الفعلي في الصناعات والخدمات.

في المقابل يشير الاقتصاد غير الحقيقي أو ما يسمى اقتصاد الأوراق المالية إلى ذلك الجزء من الاقتصاد المرتبط بتداول الأصول المالية غير الملموسة مثل الأسهم والسندات والعملات الأجنبية والعقود المستقبلية، في هذا المجال يتم تحقيق الأرباح والخسائر من خلال البيع والشراء داخل الأسواق المالية دون وجود سلعة حقيقية تنتج أو خدمة مباشرة تُقدم، بعبارة أوضح اقتصاد الأوراق المالية يتعامل مع حقوق ملكية ومضاربات تعتمد على التوقعات والقرارات الاستثمارية.

من حيث التأثير يُعد الاقتصاد الحقيقي العمود الفقري لأي مجتمع لأنه يحدد مستوى المعيشة ويخلق القيم الفعلية، أما اقتصاد الأوراق المالية فهو من المفترض أن يدعم الاقتصاد الحقيقي عبر تمويل الشركات وتمكين المشاريع من التوسع، غير أن هذا التوازن يختل أحياناً حين تصبح الأسواق المالية منفصلة عن الواقع الإنتاجي فترتفع أسعار الأسهم والأصول بناءً على المضاربات لا على الأداء الفعلي ما يؤدي إلى ما يعرف ب “الفقاعات المالية”.

ومثالها الأشهر أزمة عام 2008 العالمية حيث تسبب التوسع المفرط في المشتقات المالية المرتبطة بالعقارات في انهيار شامل رغم أن الاقتصاد الحقيقي في بعض المناطق والدول آنذاك لم يكن يعاني من مشكلات هيكلية كبيرة مما يبرز في الاعتماد المفرط على الأسواق المالية كمؤشر لقوة الاقتصاد.

الفرق الجوهري بين الاقتصادين أن الأول يقوم على الإنتاج الملموس، والثاني على التوقعات والتقييمات المالية، الأول يحتاج إلى وقت وجهد واستثمارات طويلة الأجل، أما الثاني فقد يتحرك في دقائق بناء على إشاعة أو تقرير صحفي.

مع ذلك لا يمكننا إلغاء أهمية اقتصاد الأوراق المالية أو غير الحقيقي فهو ضروري في تمويل النمو وتوزيع الموارد إذا ما تم استخدامه باعتدال، المشكلة تبدأ عندما يتحول من أداة إلى غاية وتصبح الأسواق تتحكم في الاقتصاد الحقيقي بدل أن تخدمه.

اليوم يزداد الحديث في الأروقة الاقتصادية السورية عن أولويات النهوض الاقتصادي وهل تعتمد على الاقتصاد الإنتاجي أولاً من زراعة وصناعة وبنى تحتية أو على الاقتصاد الخدمي من تجارة أو مضاربات وخدمات عامة وأحياناً ترفيهية…

في الحقيقة أن القوة الحقيقية لأي اقتصاد لا يمكن أن يعتمد أساساً إلا على الإنتاج أولاً بجميع أشكاله ومسمياته ومن ثم الخدمات الداعمة له من تمويل وتأمين وأسواق مالية ومضاربات وأي اختلال في اقتصاد على حساب الآخر سينجم عنه حالة عدم توازن ستؤثر على مجمل معدلات النمو وتراكم الناتج المحلي الإجمالي.

وتجارب دول العالم القوية والغنية تعتمد على قاعدة إنتاجية زراعية وصناعية وتجارية كبيرة وناجحة تدعمها أسواق مالية أيضاً كبيرة وناجحة.

سورية بحاجة إلى إعادة ترتيب أوضاعها الإنتاجية أولاً وبسرعة كون اقتصادها الحقيقي كان المتضرر الأول في المرحلة السابقة عبر إعادة دعم وتنشيط الزراعة بشقيها النباتي والحيواني والصناعات بشقيها التحويلي والاستخراجي والحرف بشقيها التقليدي والابتكاري والبنى التحتية الخدمية والسكنية، وتأتي بعد ذلك الأنشطة الخدمية الداعمة والمكملة لإنجاح تلك القطاعات وجعلها في أعلى قيمها المضافة.

سورية بحاجة لتأمين فرص عمل لمئات الآلاف من القوى العاملة التي تعاني من أعلى درجات البطالة وضعف التشغيل عبر مشاريع الاقتصاد الحقيقي وهي بحاجة إلى خدمات البنى التحتية التي لا غنى عنها لإنجاح الاقتصاد الحقيقي السوري ويأتي الاقتصاد الآخر غير الحقيقي لإكمال حلقة التعافي والنهوض.

العيادة الاقتصادية السوريةحديث الأربعاء الاقتصادي رقم /314/

دمشق في 3 أيلول 2025م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.