جديد 4E

كنتُ أحبُّ تلك الابتسامة المرتسمة على شفتيه وفي عمقِ عينيه الخضراوين تحت الظلال الجميلة لشعره الأشقر..

 

علي محمود جديد :

( تملك قلما صريح الملامح لا يغفر الأخطاء ولا يسامح ودائما يبشرنا بأن الاسوأ لآبد قادم ما لم نصحو من غفوتنا ونعالج أوضاعنا بفكر جديد منفتح يتجاوز كل الافكار البائسة التي درجنا عليها خلال السنوات الماضية… تحياتي أستاذ علي )

رحم الله الأستاذ الغالي :  صياح سخني، فالعبارة التي بين قوسين هي آخر الكلمات التي قالها لي منذ ستة أيام فقط، تعليقاً على مقالة تحدثتُ فيها عن بؤس الواقع الكهربائي المتزامن مع حالات بائسة عديدة.

وبغض النظر عن امتداحه لي – فهذا من ضروب تواضعه – فإنني أشعر بالهيبة كيف أنه قد ختم حياته معي بمثل هذه الحكمة التي يركز فيها على أهمية الصراحة ومكافحة الأخطاء، وضرورة أن نصحو من غفوتنا لنعالج أوضاعنا بفكرٍ جديد منفتح يتجاوز كل الأفكار البائسة التي درجنا عليها خلال السنوات الماضية .. وإلاّ فإن القادم أسوأ.

إنها حكمة حقيقية للأستاذ صياح، يلامس من خلالها أوجاع وطنه بكل صدقٍ ومحبة، ويطرح الحل الذي يكفل النهوض وتجاوز الكثير من المآسي التي نعيشها، والحكمة تليق كثيراً بالأستاذ صياح وهي ليست جديدة عليه، فمنذ ثمانينات القرن الماضي تعرّفتُ عليه .. كنتُ فتى صغيراً أحبو في عالم الصحافة الشيّق والمتلاطم الأطراف، وفيما بدأتُ خطواتي في قسم المندوبين في جريدة الثورة – وهو قسمٌ رائع ولكنه غارق في المحليّة البسيطة المبتدئة – كان صياح من رواد قسم الأخبار العربية والدولية، وهذا يعني في عرفنا أنه كان من البارعين الذين تخطوا المحلية إلى الحلقة الأبعد والأرحب.

كنتُ أراهُ عن بُعد، ولم أكن أجرؤ للانخراط معه، ليس فقط لأن كل واحدٍ منّا في قسمٍ مختلف، وإنما لأنه صحفي لامع له مكانته واحترامه ويمتلك من الخبرات ما أنا أفتقر إليه، كما أنه يكتب زاوية سياسية مذيّلة باسمه، وهذا بحد ذاته كان بالنسبة لي أمراً مذهلاً، فكم كنتُ أهنئه بيني وبين نفسي.

وتشاء الأقدار بعد سنوات قليلة أن جرى نقلي من قسم المندوبين إلى قسم الأخبار العربية والدولية، وعندها عرفتُ الأستاذ صياح بشكل أكبر وأكثر وضوحاً، وأدركتُ كم هو حكيماً ولطيفاً ومحباً لزملائه وعمله.

أعتقد أنه لم يُزعج أحداً يوماً، فهو نقي القلب، هادئ ومتزن وبشوش الوجه، لم أرهُ مرّة غاضباً، لم ينظر إليّ إلا وكانت الابتسامة تطفحُ من وجنتيه، وكنتُ أحبُّ تلك الابتسامة جداً كيف ترتسم على شفتيه وفي عمقِ عينيه الخضراوين تحت الظلال الجميلة لشعره الأشقر.

مسيرتي معه في قسم الأخبار العربية والدولية لم تكن طويلة، ولكنني خلالها تعلمتُ منه الكثير دون أن يوحي لي بأنه يعلمني من لطفه وشدة تواضعه، فيشعرني كم هو يركز على أن يكون الخبر الصحفي متكاملاً من خلال إجابته على أسئلته الخمسة ( ماذا .. ؟ ومن ..؟  ومتى ..؟ وأين ..؟ ولماذا ..؟ ) وكم من المهم ذكر المصدر .. والتدقيق في صحة المعلومة واكتشاف أبعادها قبل النشر.

طبعاً لم يكن في ذلك الزمان لا أنترنت ولا أي كمبيوتر في كل أنحاء الصحيفة، والكتابة كانت على ذلك الورق الأسمر الجميل تنساب عليه الأفكار والأخبار من لُعاب أقلامنا، لتنتشر في الصباح على شكل رياحٍ عليلة تارة .. وعاصفة تارة أخرى تحملها الجريدة الورقية – التي افتقدناها – على صهوات صفحاتها. فكان الأستاذ صياح يكاد ينغمر بالورق الأسمر، يكتب ويتلف .. ويكتب ثم يتلف العديد من الأوراق، ولاسيما إن كان يكتب زاويته، ويضع شيئاً من تلك الأوراق على طاولة المكتب، وشيئاً آخر يدعكله ويرميه في سلة مهملات معدنية مُثقّبة كانت تفيضُ ورقاً .. وكان عند مكتب كل محرر صحفي هكذا سلّة تشهد على التصفيات النهائية للعمل اليومي.

تلك الفترة القصيرة مع الأستاذ صياح كانت كفيلة بأن أحتفظ له بأعماقي بالكثير من المودة والمحبة والاحترام، واستمرت هذه المشاعر بقوة بعد أن تركت قسم الأخبار العربية والدولية إلى قسم آخر، وبقينا على تواصلٍ ومودة واحترام، ثم تقاعد وانقطعت أخباره عني، إلى أن فاجأني منذ سنتين أو ثلاثة بصفحته على الفيسبوك، وكان متابعاً جميلاً وجاداً .. رهيف الروح .. ظريف الكلمة .. وبقينا نتواصل إلى أن أفضى بحكمته منذ ستة أيام .

رحم الله روحك في عليين أستاذ صياح سخني العزيز والمحب .. وستبقى في القلب حاضراً .. وواحداً من فرسان الكلمة على صهوة الصحافة ..

أسأل الله لك الرحمة والمغفرة .. ولقلبك الطمأنينة.