جديد 4E

الذاكرة المؤلمة

 

السلطة الرابعة – عبد الحليم سعود:

كلما تقدم الانسان بالعمر هرمت ذاكرته وخسرت بعضاً من رصيدها الغني من الأحداث والذكريات – هناك استثناءات قليلة طبعاً وخصوصاً المؤسسات الحكومية المعنية بفرض الضرائب والرسوم وتحصيل الفواتير- ولذلك اخترعت الأدوات التي تحفظ هذه الذكريات ليتمكن الانسان من استرجاعها عند الضرورة، حيث كانت الجدران وكانت الأشجار وكانت الأوراق بأنواعها “ورق البردي” والورق الحديث المخصص للطباعة، ثم تنوعت الذواكر والحافظات بتطور التكنولوجيا والاختراعات الحديثة، وصار بإمكاننا اليوم تخزين كم هائل جدا من المعلومات والذكريات على “فلاشات” متناهية بالصغر، وقد نصل إلى مرحلة ما تصبح معها المعلومات والذكريات المخزنة لدى كل منا جزءا من مشكلة كبيرة بحاجة إلى حل كالنسيان مثلاً ولا سيما إذا كان بعضها مؤلماً.

اليوم أصبحت الجوالات الذكية بما تحتويه من ذواكر داخلية وخارجية هي ذاكرتنا المستخدمة، إذ لا يكاد أن يغادر أيدينا ونحن نبحث فيه عن معلومة أو قصيدة أو مقطع فيديو لأغنية أو مسلسل أو حادثة أو أي مادة مؤرخة، والأنكى من ذلك أن الفيسبوك تولى هذه المهمة، بحيث بات يذكرنا بكل ما نشرناه خلال سنوات انضمامنا إلى هذا الفضاء الأزرق، والكارثي والمؤلم في هذه الذكريات أنها تُرينا الفوارق الهائلة بالأسعار وبالأوضاع الاجتماعية والمعيشية والوظيفية بين سنة وأخرى وتجعلنا عرضة للتحسر والندم على ما فات خلال سنوات الحرب اللئيمة، ومنقادين باللاشعور للمقارنة بين سنة وأخرى، وهو يخلق حالة من الاحباط والقنوط، بأن الأمور تتغير بسرعة نحو الأسوأ…!

بالأمس ذكرني الفيسبوك بسعر الفروج في عام 2013 وكان الرقم بحدود 700 ليرة وكان هذا الرقم لا يعادل آنذاك سوى خمسة بالمئة فقط من راتب الموظف، أما اليوم فيعادل سعره أكثر من خمسين بالمئة من راتبه، وإذا استمر حيتان السوق “بإنجازاتهم” فقد تصبح معاشاتنا لا تعادل صحن بيض…والله أعلم !

اليوم الناس جميعها مشغولة بالدراما الرمضانية ومسلسلاتها البعيدة عن الواقع وشخصياتها التي تنتمي إلى الفانتازيا التاريخية والسياسية والاجتماعية، وقد غابت عنها بشكل كبير هموم الناس، وكأنه لم يعد يعنينا سوى نبش التاريخ العفن أو اختراع تاريخ مزيف، في حين أن الدراما الحقيقية هي على أرض الواقع وشخوصها واقعية بالمطلق، ولا تحتاج إلى أية رتوش أو مبالغات لتنتج أفضل مسلسلات التراجيديا والكوميديا السوداء دون هذه الميزانيات الضخمة.. وفهمكم كفاية…!