جديد 4E

خَوَنَةُ المباني

يُسلّمُ أهل الكون جميعاً – على الأرجح – تسليماً كاملاً بأن لا رادّ لقضاء الله تعالى وقدره، ومن لا يُسلّم فلن يستفيد شيئاً لأنه أعجز من أن يردّ مشيئة النفاذ عند حلول موعد القضاء مهما كان هذا الموعد غامضاً، فهكذا علّمتنا الأيام والأعوام والدهور.
الإسكندر المقدوني عندما مرض وشعر باقترابه من الموت أوصى بأن يكون حَمَلَةَ نعشه من الأطباء، وعندما سألوه عن السبب قال: حتى يدرك الأطباء أنهم مهما بلغوا من العلم فإنهم غير قادرين على الوقوف بوجه الموت.
فالإسكندر الأكبر ورغم ما بلغه من المجد وما سطّره من الملاحم بدا مُسلّماً وبمنتهى الضعف للقضاء والقدر، ولكنه لم يقف هكذا منتظراً هذا القضاء، بل عمل وأسس أكبر امبراطوريات التاريخ القديم.
فالتسليم بالقضاء والقدر لا يعني ترك أمور الحياة تجري كيفما كان، إذ علينا أن نحترم هذه الحياة وأن نسعى بها بكل طاقاتنا كي نعيش فيها ما أمكن من السلام والطمأنينة والسعادة ريثما يصل إلينا القضاء والقدر.
لا شك بأن الزلزال الذي وقع في سورية كارثة كبرى، وهو قضاء وقدر بالمُجمل، غير أنّ العديد من تفاصيل آثاره لا تبدو كذلك، لأن بعض هذه التفاصيل تصرخ بقوة أن ثمة من لم يكن أهلاً لاحترام حياة البشر، وثمة من تراخى قبل الزلزال ببذل أي طاقة ممكنة لضمان حتى الحد الأدنى من تأمين السلام والطمأنينة والسعادة للناس، وهذه الكارثة المؤلمة – التي ألمّت بنا وضربت بكفّها الثقيل علينا لتحطّ رحالها فوق بيوت الأحياء في الشوارع والحارات فتقتل الكثير من الأنفس والأحلام والأمنيات وتدفنها تحت الركام – تثير العديد من التساؤلات حول معايير البناء، وكيف انهارت سريعاً بعض المباني في حين صمدت الكثير من الأبنية الأخرى الواقعة ضمن الدائرة الزلزالية ذاتها..؟!
صحيح أن الزلزال كان عنيفاً ولكن درجة العنف لم تكن كافية بالضرورة لهدم مبانٍ جيدة التشييد من مختلف الجوانب، حسبما أفاد العديد من الخبراء بهذا الشأن، والحقيقة فإن معايير البناء عندنا قوية وتقتضي جودة التشييد على الورق، غير أنها لا تحتاج إلاّ إلى الالتزام بالتطبيق فقط .. ولكن من سوف يُطبّق ..؟
إن كان بعض المقاولين أو بعض تجار البناء ليسوا أهلاً لاحترام حياة البشر وغير معنيين بسلامة وطمأنينة الناس، لأنهم خانوا أبنيتهم بسلب معاييرها والتلاعب بمواد البناء فضمنوا بجشعهم دخولها في دائرة الخطر التي لا تحتاج إلى ( 7 ريختر) لاكتشافها.. فماذا نفعل ..؟!
هذا المشهد يدفع باتجاه البحث عن حلول، وأقرب الحلول التي كان يمكن أن تتصدى لمثل هذا الفلتان العمراني، هي اللجوء إلى البلديات في مجالس المدن والبلدان والبلدات، فهي الأكثر قدرة على ضبط عمليات البناء وفرض احترام حياة البشر، ولكن الإرث البشع للكثير من هذه البلديات يؤكد أن لا أمل في مثل هذا الحل، بعد الإفراط في مخالفات البناء التي يرى الجميع كيف تضرب بأطواقها حول المدن، ويدرك الجميع أيضاً حجم الرشاوى والأتاوات والمصالحات التي جرت وتجري في هذه الميادين، ولا داعي للغوص في التفاصيل المعلومة.
فما الحل إذاً؟
لعلّ الوصول إلى هذا الطريق المسدود يوقظ القطاع التأميني ويرى أن ثمة ضرورة حقيقية للتفكير بالدخول في هذه المعمعة، ولعلّه يخترع منتجاً تأمينياً جديداً يقطع الطريق على خونة البناء وفاسدي البلديات، ليصير معايير أي بناء مرتبطة بمعايير تأمينية تفضي إلى قبوله أو هدمه .. لمن كان يكون وأينما كان .. عندها سنؤمن أكثر بالقضاء والقدر وندرك جيداً الفرق بين القضاء ونتائج الإهمال والخيانات.

صحيفة الثورة – على الملأ – 19 / 2 / 2023م