جديد 4E

لحلب في التاريخ .. والحاضر .. دور بزَّ نظيره عند دمشق

عبد المنعم علي عيسى:

تشير الوثائق إلى أنها إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم ، والموثوقة منها تؤكد أنها مسكونة بلا انقطاع منذ الألفية السادسة قبل الميلاد ، وفي غضون هذا ” العمر ” المديد تعاقب عليها الحثيون والسريان والآشوريون ثم العرب والمغول والمماليك قبيل أن يغزوها الأتراك مطلع القرن السادس عشر .

ورد ذكر حلب في رقم يعود لمملكة ” إبلا ” باسم ” أرمان ” قبل نحو خمسة آلاف عام ، وأطلق عليها في مملكة ” ماري ” اسم ” هليا ” ، في حين كان الاسم الأقرب إلى اسمها حاليا هو ” حلبا ” الذي أطلق عليها زمن مملكة يمحاض الأمورية ، والبعض يقول أن اسمها الحالي كان قد جاء في سياق تعريب هذا الاسم الأخير فقيل حلب التي تعني باللغة السريانية البيضاء ،

الاسم الذي حملته المدينة منذ الفتح الإسلامي لها سنة 637 م الذي تلاه انضواءها تحت راية الدولة الأموية ومن ثم العباسية ، وهي ستشهد في المراحل الأخيرة من عمر هذي الأخيرة قيام الدولة الحمدانية التي اشتهرت بحمايتها للثغور العربية على الحدود مع البيزنطيين ، وكذا بنشر الأدب والثقافة في المحيط خصوصا زمن سيف الدولة الحمداني ، ومع انهيار الدولة العباسية على يد هولاكو سنة 1258 م ستسقط المدينة أيضا على يد هذا الأخير ، ليتبعها سقوطها أيضا على يد الأتراك التي شهدت أراضيها معركة ” مرج دابق ” 1516 التي مثلت ” مفتاحية ”  وقوع المنطقة العربية برمتها تحت السيطرة العثمانية لأربعة عقود متواصلة .

ما يهمنا من هذه السردية السريعة هو القول أن تاريخ حلب لم يكن انقطاعيا ، و بمعنى أدق لم يكن اجتثاثيا ، فتعاقب الحضارات كان يسير بشكل تفاعلي واللاحق منها لا يزيل أثر السابق ، وهذا ما جعل من تركيبتها أشبه بفسيفساء مزركشة ذات موروث يمتلك خصوصية النشاط والحيوية كلما توافرت الظروف المناسبة لذلك ،

وهي ، أي تلك الظروف ، غالبا ما توافرت بفعل خصوصية الموقع الذي وضعها على نهاية ” طريق الحرير ” لقرون طويلة الأمر الذي جعل منها ” همزة وصل ” لا غنى عنها ما بين هضبة الأناضول و شبه الجزيرة العربية ، و معبارا لعب دور الجسر ما بين القارتين الآسيوية والإفريقية ، وإن كان ذلك الدور قد تراجع منذ العام 1869 الذي شهد افتتاح قناة السويس .

هذا الموروث كان قد بدأ تمايزه الذي تمظهر بنضج نسبي لطبقات المجتمع الحلبي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعليه راح ذلك النسيج يبدي حالة من النشاط واستعدادا للعب أدوار ريادية، تبز نظيرتها في دمشق، من النوع الراسم لمستقبل الكيان الأم ولونه وهويته، حدث ذلك بطريقة تساند فيها الفعل السياسي مع نظيريه الفكري والثقافي كنتاج طبيعي لحالة النضج سابقة الذكر .

السلاح – ابراهيم هنانو

من مواليد كفر تخاريم غربي حلب عام 1869 ، وفي العام 1919 استشرف مبكرا الخطر الفرنسي الذي ارتآه ينسج على منوال أسلافه

العثمانيين الذين كانوا قد غادروا البلاد قبل نحو عام ، فقام بتأسيس قوات عربية على شكل فِرقٍ من المجاهدين لمشاغلة الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا انطاكية لعل الفعل يردعهم من التقدم نحو دمشق وحلب ، وقف ضد الملك فيصل وعبد الرحمن الشهبندر اللذان قررا قبول الانتداب الفرنسي بذريعة تجنيب البلاد مخاطر لا قبل لها بمواجهتها ، مما اضطره للاستعانة بمصطفى كمال اتاتورك بغرض الحصول على السلاح ، لكن موقفه ضعف بعد توقيع الأتراك والفرنسيين لمعاهدة سلام مشتركة فاضطر للجوء إلى جبل الزاوية ، خاض 27 مواجهة كبرى مع الفرنسيين ، وتواصل مع فلاديمير لينيين ، قائد الثورة البلشفية ، بغية الحصول على دعم يقيه الخطران التركي والفرنسي ، وفي النهاية لجأ إلى القدس التي اعتقله الإنكليز فيها وقاموا بتسليمه إلى الفرنسيين ، لكن المحكمة برأته من الجرم الذي اتهم به و قد جاء في حيثيات الحكم أن ” ثورة هنانو سياسية مشروعة ” .

لعل المؤشر الأهم في ثورة هنانو كان يتمثل في المنحى الذي ذهبت فيه الطبقة البرجوازية التي تريد الاضطلاع بدورها التاريخي في مناهضة الاحتلال ، والعمل من خلاله على ترسيخ الهوية السورية كمهمة داعمة لذلك الفعل ، وإذا ما كان هنانو قد ارتحل عن دنيانا قبيل أن تكتحل عيناه باستقلال بلاده فإنه أضرم نيران المقاومة بين جنبات سورياه التي ستشهد استقلالها بعد 11 عاماً على ذلك الرحيل .

السياسة :  الكيخيا – القدسي  – الدواليبي – الجابري

قبيل أن تعطي الثورة السورية ثمارها المرجوة بالخلاص من الاستعمار الفرنسي كان الفعل السياسي ماثلا في الحياة السياسية الحلبية، والتزامن هنا بين الفعلين كان حاضرا ، لكن الأخير ، أي العمل السياسي الحلبي ، كان متمايزا عن نظيره عند الشوام ، وهذا يظهر بوضوح في طروحات ” حزب الشعب ” الذي كان ثالوث  ( رشدي وناظم و معروف ) أبرز القيادات التاريخية لذاك الحزب الذي تأسس على ايدلوجيا ليبرالية مستمدة من المفاهيم الحداثوية والتنويرية الغربية سنة 1947 ، بعكس الرابع ( سعد الله ) الذي كان منتميا لل ” الكتلة الوطنية ” أبرز المعارضين لتوجهات ” حزب الشعب ” .

الجدير ذكره هنا في هذا السياق أن الخلاف السياسي القائم ما بين الكتلتين السابقتين ، والذي يتمحور بالدرجة الأولى حول فكرة الوحدة ، ومع من يجب أن تكون ، كان يعتد بأسباب اقتصادية تغوص عميقا في صتاعة التوجه السياسي ، ف ” حزب الشعب ” كان يميل للوحدة مع العراق قيادات وكوادر ، في حين كانت ميول ” الكتلة الوطنية ” تتجه نحو الوحدة مع مصر ، والمؤكد هو أن تلك الأسباب كانت غالبا ما تطغى على المزاج العام السائد  الذي غالبا ما يلعب دوراً في الثقل الذي تمثله التيارات والأحزاب السياسية .

كان الدور الذي لعبته حلب تاريخيا  قد فرض نزوعا واضحا نحو الشرق ( العراق على وجه التحديد ) ، في حين وجد ” الشوام ” أنفسهم أقرب إلى التوجه غربا ( مصر على وجه التحديد ) لاعتبارات عديدة منها التاريخي والإقتصادي أيضا .

الفكر :  جورج طرابيشي

طغت صفة المترجم على غيرها من الصفات العديدة التي حملها جورج طرابيشي المولود بحلب سنة 1939 ، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه ، فهو ترجم للعديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال هيغل و سارتر و غارودي وسيمون دي بوفوار ، لكن ذلك لا يعني أن صفة المترجم كانت هي الأهم من بين ما حمله ، فقد استطاع عبر كتابه ” نقد العقل العربي ” أن يثبت أنه مفكر من الطراز الرفيع ،  و الكتاب ، الذي كان يمثل المحطة الأهم في تاريخه ، يحوي مراجعة شاملة للتراثين اليوناني والأوربي ، وكذا للتراث العربي الإسلامي من كل أوجهه الفلسفية والفقهية و اللغوية والبيانية .

في غضون مسيرته السياسية تنقل طرابيشي ما بين القومية العربية ، ثم البعث ، فالماركسية قبيل أن يختم حياته بنزوع بدا غريبا نحو الليبرالية .

الشعر  : عمر أبو ريشة

رهن أبو ريشة ، المولود بمنبج شمال حلب سنة 1910 ، شعره لاستنهاض الموروث الحضاري والتاريخي السوري والعربي على حد سواء ، ومن خلاله أيضا نحو تعزيز الشعور بالفخار وعزة النفس عند الإنسان السوري الذي تعرضت شخصيته ، وكيانه ، لمحاولات التذويب والانصهار على امتداد ما يزيد عن سبعة قرون مضت ،

لكنه في الآن ذاته حذر من خطر الاستكانة والتواكل ، والنوم على الأمجاد الغابرة ، ليعمد بعدها إلى ترسيخ صورة ، عبر أشعاره ، مفادها أن ” الحق لا تحميه إلا القوة ” ، وعندما حدثت النكبة سنة 1948 أضحت قضيتها ، وقضية القدس ، البوصلة التي يحدد من خلالها الاتجاهات كلها ، و ” المسطرة ” التي يقيس بها مواقفه ، ومواقف الآخرين ، ليحدد من خلال الفعل أين يقف هو ، وأين يقف الآخرون .

الموسيقى : قدود حلب

شكلت حلب ، التي حظيت بإرث موسيقي كبير يعود في تاريخه إلى دخول المسيحية إليها الذي فرض دخول التراتيل والألحان الدينية ، في العصر الحديث تحديا ، وامتحانا ، لكبار الموسيقيين العرب في العصر الحديث ، حتى أنها أضحت مركزا يمنح ” شهادات التقدير والثناء ” تكون بمثابة جسر عبور لمن يريد أن يصبح اسمه في خانة المبدعين ،

ولطالما كان البروز الأكبر في هذا السياق قد جاء في سياق تطوير ” القدود الحلبية ” الذي جرى للمرة الأولى في العصر الحديث على يد صبري مدلل ، ثم تابع بعده صباح فخري و أديب الدايخ ، وعلى يد هؤلاء ، ومعهم آخرين ، وما أضافوه على التراث أدرجت منظمة ” اليونيسكو ” التابعة للأمم المتحدة في كانون أول من العام 2021 القدود الحلبية ضمن قائمتها للتراث الثقافي غير المادي الذي تدعمه في سبيل الحفاظ عليه .

خاص للسلطة الرابعة