جديد 4E

محنة مؤقتة..!

السلطة الرابعة – عبد الحليم سعود:

كثير من المواقف التي نواجهها في حياتنا قد تكون عادية ولا تستحق الذكر، لكن الحياة الصعبة والمريرة التي نعيشها كسوريين وما يجري خلالها من مفارقات كل يوم ليس عاديا البتة، وهو يستحق أن يدخل التاريخ “البائس” من بابه الواسع، وقد يحق لنا أن نضع له عنوانا من قبيل “حَمَلٌ أكلته الذئاب” أو “مواطن بهدلته الأزمة” أو “مخلوق معلق من عرقوبه “..!

بالأمس حدث معي موقف طريف، أعتقد أنه يستحق الذكر، إذ قلما أن حدث مثله، حتى مع أبي القاسم الطنبوري..!

فقد اتصل بي صديق – وهو زميل صحفي – ودعاني لفنجان قهوة في مقهى دمشقي عريق يقصده ما تبقى من مثقفي بلدنا لارتباط المكان تاريخياً بأصحاب فكر وأدب وثقافة، أو لأنه ما يزال يحتفظ ببعض طقوسه البسيطة رغم كثرة المقاهي الباذخة والعادية التي تتزاحم من حوله في قلب العاصمة..!

لا أنكر أن لدي حساسية إزاء ارتياد المقاهي ولم أدخلها إلا في مرات قليلة جدا، ربما لأني غير مدخن ولا اتعاطى الاركيلة، وكنت أشعر أن وجودي فيها سيكون مضحكا أو غريباً ليس لأني بعيد عن حقول الفكر والثقافة، وإنما لأني لم أعد أملك – كمواطن سوري- ترف أو جرأة الدخول إلى أماكن كهذه..!

بلا طول سيرة، كانت الساعة تقترب بعقاربها الثلاثة من الثانية عشرة ظهرا حين دلفت إلى مقهى الهافانا الشهير لأجد الصحفي الصديق بانتظاري حيث كان جالسا إلى طاولة أديب وإعلامي معروف، ونظرا لأن الطاولة صغيرة ولا تتسع لضيف جديد فقد انتقلنا الى أخرى قريبة منها، ورحنا نتبادل الحديث كل من موقعه بانتظار مجيء صديقين آخرين كانت قد تمت دعوتهما للقاء.

فجأة وقف الأديب والإعلامي “الظريف” وأصر على أن يقدم لنا ضيافة غريبة من نوعها، بعد أن لاحظ “الكوارث” التي لحقت بأحذيتنا المتواضعة بسبب تجديد أرصفة العاصمة باستمرار ودون أي حاجة أو مبرر، فأراد أن يعيد لنا هيبتنا  (هيبة المثقف) من خلال أحذية لامعة، بالتزامن مع دخول ملمع أحذية صغير.. فنقده ورقة نقدية وطلب منه القيام بمهمة التلميع، وفي جو من التردد والاستغراب والضحك وافق صديقي الصحفي على الضيافة (الطريفة) وأعطى للصبي حذاءه وانتعل (شحاطة بلاستيكية) أين منها قبقاب غوار الطوشة.. دقائق قليلة ثم عاد حذاء الصديق شديد اللمعان..ليأتي دوري أنا..فخلعت حذائي وانتعلت نفس الشحاطة، فغاب الصبي وأطال غيبته.. فتخيلت نفسي خارجا من المقهى (بخفي حنين).. خلال هذه المدة استعرضت كل ما تختزنه ذاكرتي عن الأحذية وعلاقتها بالسياسة والأدب والإعلام  بدءاً بحذاء خروتشوف في الأمم المتحدة وحذاء الزعيم الهندي غاندي الذي وقع منه في القطار، وصولا إلى حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي “استقبل به” الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، ولم تغادرني لحظة واحدة شخصية “عبد السميع اللميع” صاحب الدكتوراه في مسح الأحذية بالورنيش، كما تذكرت كل أحذية المسؤولين وتجار الأزمات التي يقوم بتلميعها أشباه المثقفين والصحفيين على امتداد الوطن..!

حقيقة لم أستمتع كثيراً بفنجان القهوة رغم سعادتي باللقاء، لأنني كنت مشغولا بتغريبة الحذاء، واحتمال خروجي من المقهى “بشحاطة” شديدة البؤس، لدرجة أن الحديث عن الأحذية قد طغى على كل الأخبار والتصريحات الرسمية التي تداولناها في اللقاء، المهم أن الحذاء عاد في النهاية وكان لشدة لمعانه لا يشبه نفسه قبل ساعة، ما استدعى مباركة الزملاء والأصدقاء معي على الطاولة.. لأسجل في دفاتري أنها المرة الأولى والوحيدة التي أقدم فيها على تلميع حذائي في مقهى  أو في مكان عام..!