جديد 4E

حنين ..

سهيــل خليـــل :

في بداية الستينات من القرن الماضي وصلت الطريق إلى قريتنا، وكنا قبل ذلك نقطع الكيلومترات الخمسة بين قريتنا والطريق العام سيراً على الأقدام، وكانت السيارة الأولى التي دخلت القرية هي سيارة لاند روفر، وسكن السائق في القرية وصار من أكثر الشخصيات في القرية أهمية، وكنا نسهر في غرفته، وفي كل مساء كان يقدم لنا ضيافة من حلويات يأتي بها من بانياس، والجميل في ذلك السائق أنه كان قد فتح دفتراً لمديونيه من الزبائن، وكان يقبل كأجر البيض والجوز والزيتون وخيوط التبغ تسديداً لديون زبائنه، ومرت الأيام واشترى سيارة أكبر من الأولى، لأن عدد الزبائن ازداد، كما أن الطريق تم شقه بين قريتنا وبعض القرى المجاورة، وذات مساء أسعدني الحظ واطلعت على قائمة سائق قريتنا العتيد، وكانت القائمة تبعث على الضحك، وأحياناً على البكاء، ففي القائمة مثلاً كان هناك أسماء معظم أهل قريتنا، لأن الجميع كانوا على حافة الإفلاس، حتى المختار ورد اسمه أكثر من مرة , وكان مختارنا يملك حانوتاً صغيراً في دوارة القرية، وكان يبيع في الحانوت التمر والحلاوة والكعيبات، وفي كل يوم جمعة كان يذبح خروفاً، ويبيعه لأهل القرية، كان يشعل ناراً أمام الحانوت ويبيع اللحم المشوي، وكان سعر أوقية اللحم يومها يا أولاد الحلال بنصف ليرة مع رغيف خبز من الحنطة البلدية، وأذكر كيف كانت رائحة اللحم المشوي تعبق في فضاء الدوارة ساحرة كالعطر، أذكر الآن المختار والنار المشتعلة، فلقد كنا نسعد بنهارات آذار المشرقة، والغيوم البيضاء تخرج من البحر كقطيع من الخراف الشاردة، كان آذار يرسم على الدروب كلمات من خضرة فاتنة، وفي آذار كانت تتفتح في الحقول أزهار بخور مريم والبريبهان، وكنت أخرج أجمع هذه الأزهار، وكان هناك أيضاً أزهار أخرى صالحة للأكل كعوينة البقرة، وكنت أبحث عن قرون الجدي والقرقفون، وهذه النباتات غير معروفة لجيل اليوم، أعني جيل نانسي عجرم وهيفاء وهبي، جيل اليوم هو جيل الهمبرغر والهارد ميوزيك وأفلام الأكشن، وقد يقول قائل: أنت رجل يعيش في الماضي !! أقول : أنا رجل يحن إلى الماضي أحن إلى البراري الفسيحة و أمسيات الربيع والصيف أحن إلى رفوف الدرغل و أفراخ طيور الحجل التي كانت تملأ السفوح، أحن ٌإلى صوت ربابة أبي ونوس وحكايا أبي شريف، أحن إلى جلسة على مصطبة خالي علي الذي رحل منذ سنوات طويلة، أحن إلى صوت أمي وهي عائدة من التنور وهي تحمل على رأسها طبقاً من القش عامراً بالأرغفة السمراء و أقراص السلق، أحن إلى صوت أبي وهو يقرأ أشعار المكزون ومنتجب الدين العاني، أحن إلى الصيرة التي كان قطيع ماعزنا الصغير ينام فيها، أحن إلى الأماكن التي أحبت أقدامي حين كنت صغيراً، وصدقوني بأنني أشعر بحزن كبير كبير , لأن الماضي لا يمكن أن يعود، ذلك الماضي المحفور على أغلظ شرايين القلب .