جديد 4E

ليست كل نظافة حضارة وإيمان ..!

 

عبد الحليم سعود

أول ما يلفت نظرك في أي مكان أو مدينة أو حي تزوره هو مستوى النظافة المطبق فيه، فكثيراً ما يتم الربط بين نظافة المكان وحضارة سكانه، وكم أبدى أصدقاء متغربون اعجابهم بالبلدان التي كانوا فيها بقولهم: لا أحد  يرمي في الشارع عقب سيجارة أو ورقة كلينكس مثلا كدليل على رقي وحضارة شعبها..!!

بالنسبة إلينا الوضع مختلف تماماً فالنظافة لها مفهوم آخر مرتبط بنظافة القلوب وبياضها لا أكثر ، فرغم امتلاء لغتنا وتراثنا الثقافي بالكثير من الحكم والأمثال التي تحض على النظافة عموما إلا أن الواقع ــ مع كل أسف ــ يؤكد أننا الأقل التزاما بين شعوب الأرض بمعايير النظافة وثقافتها، ولو جلنا على بعض الأحياء والشوارع الراقية في مدينة دمشق ــ على سبيل المثال ــ لوجدنا مشاهد صادمة للعين نتيجة تراكم النفايات وبقايا الأطعمة الجاهزة وعبوات المياه المعدنية والغازية الفارغة، وأنا هنا لا أغمز من قناة عمال النظافة الذين يقومون بواجبهم على أكمل وجه رغم ظروف عملهم الصعبة وضعف رواتبهم وحوافزهم، وإنما أستغرب الثقافة السائدة في المجتمع والتي لا تقيم للنظافة وزنا، رغم أن الجميع يحفظ المقولة الشهيرة (النظافة من الإيمان).

من المشاهد الصادمة يوميا وجود شخص يقضي حاجته في وسط الشارع دون حياء، أو شخص يرمي قمامته على بعد أمتار قليلة من الحاوية، أو يضعها أمام باب أو شباك جاره، وكثيرا ما يتحول كشك هاتف مهجور أو صراف آلي معطل مع مرور الوقت إلى مكان قذر بسبب المتسكعين والمشردين.. كما يمكن أن تتحول حفرة نسيت البلدية ردمها أو ريغار صرف صحي أهملت معالجته، إلى مكب قمامة على الفور، والأغرب من ذلك هو تحول جسر مشاة في وسط العاصمة إلى مكان ملائم للمتسولين من ذوي العاهات ــ ربما المصطنعة ــ وقد تسأل نفسك كيف استطاع شخص بلا رجلين الصعود إلى أعلى الجسر..؟!

أحيانا تأتي المصيبة ممن تعتقدهم متحضرين كأن  يقوم أصحاب السيارات الفارهة برمي قمامتهم ومخلفاتهم وسط الشارع على الماشي دون أي خجل أو حياء لينال المارة نصيبهم من بقايا أطعمتهم وعبواتهم الفارغة وربما مخلفات أخرى أكثر قذارة، فخلال إقامتي الطويلة في العاصمة رأيت العجب العجاب في مسألة النظافة التي أرجع أسباب ضعف ثقافتها إلى ضعف الإجراءات العقابية المتخذة بحق المخالفين، ونظراً لأهمية الموضوع وبعيداً عن التعميم سأورد بعض الأمثلة التي أشاهدها بشكل يومي:

ــ على مدى سنوات من ترددي إلى حي المالكي تلفتني يوميا المشاهد المؤذية لفرع بردى الشمالي حيث جعله بعض ضعيفي الأخلاق والتربية والذوق من “عشاق الصدفة” والمتسكعين مكباً لنفاياتهم بحيث يتأفف العابر بالقرب من مدرسة الثقفي ومجمع اللغة العربية من الوقوف بجانب النهر والتقاط صورة تذكر القارئ بهذا النهر العظيم الذي تغنى بجماله وعذوبة مياهه كبار الشعراء من نزار قباني وصولا إلى أحمد شوقي وسعيد عقل..!

ــ قبل مدة كنت أعبر من ساحة المرجة فلفتني صبي صغير وقد جمع مخلفات المحل الذي يعمل فيه ورماها بكل جرأة في مجرى النهر القريب، وفي شارع 29 أيار تحولت سيارة قديمة معطلة إلى مكب للقمامة قبل أن تنقل من مكانها بعد ذلك، وهنا أستغرب كل الاستغراب من تلكؤ المحافظة في إزالة السيارات القديمة المعطلة من شوارع العاصمة ومخالفة أصحابها، في حين تسارع شرطة المرور لمخالفة أي سيارة حتى لو توقف صاحبها لدقائق قليلة لإتمام معاملة أو ربما لتقاضي راتبه من صراف وسط المدينة.

ــ لن أتحدث عن الحارات الشعبية والعشوائيات التي تعج بالمشاهد المؤذية التي تجعلك تخرج من طورك كل صباح بسبب انعدام ثقافة النظافة، إذ لا يكاد عمال النظافة ينهون عملهم حتى ينتشر الزبالون الحقيقيون فيملؤون حاراتهم بمختلف النفايات والأوساخ دون خشيتهم من تسببها بنشر الأوبئة والأمراض، بينما المخاتير والبلديات لا تقوم بأي إجراء يردع مثل هذه المناظر.

ــ في زحمة المشاهد المؤذية التي أراها كل يوم، لا أنكر أن هناك جهود جبارة لإعلاء شأن (النظافة) ولكن لا علاقة لها لا بالإيمان ولا بالحضارة، فمثلاً يُسجل لتجارنا النبلاء أنهم الأكثر تمسكاً والتزاما بثقافة النظافة، لأنهم نظفوا جيوب الشعب تماماً بأسعارهم الكاوية، وإذا استمروا في هذا النهج فقد لا نحتاج إلى شبكات صرف صحي أو حاويات قمامة ولا إلى عمال نظافة، لأن الناس ستعجز عن شراء ما تحتاجه من مواد غذائية واستهلاكية، وبالتالي لن ينتج عنهم أية مخلفات بتاتاً، وعندها قد نصبح الأكثر نظافة على المستوى العالمي…في حين يتسابق الكثير من المسؤولين لإنشاء شركات تنظيف خاصة وفرضها على المؤسسات الحكومية لتنظيف ميزانيتها، وهكذا يساهمون بقسط وافر من النظافة وثقافتها ..”واللي مو عاجبو يضرب راسو بالحيط”..!