جديد 4E

الفيروسات تجتاحنا منذ القِدم وتنتهي .. إلاّ فيروس الجوع مستمر رغم توفّر اللقاح .. !

السلطة الرابعة –4e: سماح المحمود

فيروسات صغيرة لا ترى بالعين المجردة، استطاعت أن تزهق أرواح مئات الملايين من البشرية عبر التاريخ، وتسبب بخسائر فادحة في اقتصاديات الدول، لتكون بذلك أشد فتكا من نيران الحروب العالمية وما تخللها من قنابل ذرية وصواريخ نووية وكيماوية وأسلحة أدهشت البشرية في هولها وتدميرها إلى يومنا هذا.

فإذا كانت ضحايا الحرب العالمية الأولى قد أزهقت ما يقارب 16 مليون قتيلا، والثانية ما بين62  و 78 مليون قتيلا وفقا” للإحصائيات العالمية، فإن فيروس واحد فقط استطاع أن يزهق ما يقارب 200 مليون بشري على وجه الأرض..!!

تعرضت البشرية عبر تاريخها لعدة فيروسات قاتلة، منها ما عرف مصدرها، وأخرى بقيت مجهولة إلى تاريخه، إلا أنها استطاعت أن تخلد في ذاكرتنا، و منها :

طاعون جستنيان

يعتقد بعض المؤرخين أنه كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا بالتاريخ في الفترة بين (541-542م) حيث أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25- 50 مليون شخص خلال قرنين، ما يعادل 13 _26 % من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة.

أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله، حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون. واستمد اسمه من اسم الإمبراطور البيزنطي ( جستنيان ) الذي انتشر بعهده، وأصيب جستنيان نفسه بالمرض، لكنه نجا.

الناس لم يعرفوا كيفية محاربة المرض باستثناء محاولة تجنب الاختلاط بالمرضى، هذا ما قاله توماس موكايتيس أستاذ التاريخ بجامعة دي بول .

وبحسب المصادر التقليدية، ساهم تفشي هذا الوباء في توقف الأنشطة التجارية وإضعاف الإمبراطورية، مما سمح للحضارات الأخرى باستعادة الأراضي البيزنطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا.

تكرر ظهور الطاعون بشكل دوري حتى القرن الثامن الميلادي و كان لموجات المرض تأثير كبير على المسار اللاحق للتاريخ الأوروبي .

الطاعون الأسود ( الموت الأسود ) 

 من أكثر الأوبئة فتكا” و قدرة على الانتقال و الانتشار، فسرعة تفشي هذا الوباء (في القرن الرابع عشر) ما تزال تحير المؤرخين وعلماء الأوبئة على حد سواء، إذ انتقل بسرعة من الصين إلى الهند وآسيا الوسطى حتى اجتاح أوروبا وشمال إفريقيا.

وبحلول عام  1951 كان قد قضى على نحو نصف سكان أوروبا، وتذكر بعض المصادر أن عدد ضحاياه يصل إلى 200  مليون.

ولا يعرف على وجه الدقة كيفية انتهاء المرض، لكن يمكن القول أنه مع ظهور المرض بدأت فكرة ” العزل ” فقد لجأت ايطاليا وبالتحديد في فلورنسا إلى عزل المصابين في مكان واحد، و حجز السفن القادمة إليها لمدة أربعين يوما” قبل السماح لها بالرسو في موانئها و إفراغ  حمولاتها ( و هو شبيه بالحجر الصحي في يومنا هذا )  و قد تمكنوا بالفعل من الحد من انتشار المرض إلى حد ما .

أما اسبانيا و هولندا فقاموا بقطع أي اتصال بينهم و بين الدول التي تفشى بها الطاعون و علقوا عمليات التبادل التجاري معها (و هي أشبه بقيام الدول في يومنا الحالي بتعليق حركة الطيران مع الدول الموبوءة و منع مواطنيها من الدخول )  .

الجدري

جلب الأوروبيون عددا من الأمراض الجديدة عندما وصلوا لأول مرة إلى الأمريكيتين عام 1942 / و كان احد هذه الأمراض مرض الجدري ( وهو مرض معدي ) الذي أودى بحياة 90 % من السكان في الأمريكيتين .

 اجتاح أوروبا وآسيا وشبه الجزيرة العربية لقرون عدة، إلا أنه و بعد قرون أصبح الجدري أول وباء يتم التخلص منه بواسطة لقاح اكتشفه الطبيب البريطاني إدوارد جينلر حيث قام بتلقيح ابنه البالغ من العمر تسع سنوات بجدري البقر ثم عرضه لفيروس الجدري و لم تحدث نتائج سلبية على الطفل .

في ذلك الوقت توقع الطبيب أن يتم التخلص من المرض نهائيا، لكن الأمر استغرق ما يقرب من قرنين آخرين، ففي عام 1980 أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه تم القضاء كليا على الجدري.

 الكوليرا

ضرب هذا الوباء العالم عدة مرات منذ القرن التاسع عشر، و مجتمعات قليلة التي نجت من هذه الجرثومة شديدة العدوى، التي تنتقل عبر الطعام أو المياه الملوثين لذلك فهو لم يؤثر بشكل كبير على الدول الغنية إلا أنه ألحق الضرر بأغلبية ساحقة في البلدان الفقيرة التي تعاني من التوزيع غير العادل للثروة و تفتقر للتنمية الاجتماعية .

يُقال بأن هذا الوباء ظهر في جيسور بالهند وانتشر في معظم أنحاء المنطقة ثم إلى المناطق المجاورة، و أودى بحياة الملايين قبل أن يتمكن الطبيب البريطاني جون سنو من معرفة بعض المعلومات للحد من انتشاره.

أنتج لقاح الكوليرا عام 1985 إلا أن استخدامه لم يقضِ على المرض و استمر الكوليرا في الظهور و حصد الأرواح في بلدان متفرقة، لذلك اعتبرت منظمة الصحة العالمية أن موجة التفشي السابعة للمرض التي بدأت عام 1961 في جنوب آسيا لا تزال مستمرة حتى الآن، و تشير بياناتها إلى وفاة نحو 3 آلاف طفل في اليمن بسبب الكوليرا منذ عام 2016 , و طبقا” لإحصائيات المنظمة فإن هذا الوباء يصيب سنويا 1,3 مليون إلى 4 ملايين شخص ويتسبب بوفاة 21 ألفا إلى 143 ألفا.

الانفلونزا الاسبانية

من أشهر الأوبئة في القرن العشرين وأكثرها حصدا للأرواح (هناك بعض التشابه بينها و بين كوفيد 19 )

ظهرت الانفلونزا الاسبانية عام 1918 في أواخر الحرب العالمية الأولى، تفترض بعض النظريات نشوء المرض في الصين و انتقاله منها إلى أمريكا الشمالية و أوروبا إلا انه لا يوجد أي دليل على ذلك، وأولى الحالات ظهرت في الولايات المتحدة عام 1918 ثم في أوروبا، إلا أن الرقابة الصحافية آنذاك كانت تمنع نشر تقارير عن انتشار الوباء لعدم تثبيط الروح المعنوية للجنود، على عكس الصحافة الاسبانية التي كانت أول من تحدث عن الوباء في أيار 1918 باعتبارها دولة اعتمدت مبدأ الحياد خلال الحرب و لذلك سُمي بالانفلونزا الاسبانية، مع انه كان قد قتل حينها مئات الآلاف في دول أخرى.

حصدت الانفلونزا الاسبانية أرواح 50 مليون شخص على الأقل حول العالم و أصابت نحو نصف مليار إنسان، و مما ساعد في انتشاره هو عودة الجنود المصابين بالوباء من الحرب إلى مدنهم و قراهم، و كانت معدلات الوفاة في إفريقيا والأماكن الفقيرة أعلى من الأماكن الغنية التي تتوفر فيها رعاية صحية، فقد تميزت هذه الانفلونزا بقدرتها على إحداث مضاعفات مميتة فيمن أعمارهم اقل من 45 سنة، و يرى البعض أن سبب المناعة لدى كبار السن ضد الانفلونزا الاسبانية هو تعرضهم للانفلونزا الروسية عام 1889 مما أكسبهم مناعة جزئية ضد الفيروس.

لم يهتم العالم كثيرا بالوباء بسبب انشغالهم بأمور أخرى في أعقاب الحرب فضلا عن تضرر المنشآت الصحية ووفاة آلاف الأطباء في الحرب .

انفلونزا الخنازير

قبل تفشي فيروس كورونا المستجد كانت انفلونزا الخنازير أحدث وباء يضرب العالم إذ أصاب 21 % من سكان المعمورة، وهو مزيج من سلالات الانفلونزا المختلفة التي لم تحدث أن شوهدت مجتمعة مع بعضها.

ظهر الوباء في آذار عام 2009  في المكسيك لدى أشخاص يعملون في مزارع لتربية الخنازير وذلك بعد حدوث طفرة جينية للفيروس مكنته من الانتقال من الخنازير إلى الإنسان، و في حزيران من نفس العام أعلنت منظمة الصحة العالمية أن هذا الوباء أصبح جائحة بعد تفشيه في العديد من الدول حول العالم وحصده أرواح الآلاف، وحذرت من التحور السريع للفيروس مما يجعله أكثر خطورة و يُصعب اكتشاف لقاح مضاد له، و في عام 2010 قدرت المنظمة الوفيات الناتجة عنه بـ 18,500 شخص حول العالم .

واجه العالم هذه الجائحة بطرق الوقاية نفسها التي تستخدم في يومنا للوقاية من كورونا المستجد مثل العزل والتباعد الاجتماعي، ولاحقا صنع لقاح له و تم الإعلان عن احتوائه .

كورونا المستجد . . .

اكتشف المرض في كانون الأول عام 2019 في مدينة ووهان بالصين، و أطلق عليه اسم nCoV-19  وقد صنفته منظمة الصحة العالمية في 11 آذار 2020 جائحة.  يستطيع الفيروس أن ينتقل بين البشر مباشرة، و هناك أدلة مبدئية على أنه قد يكون معديا قبل ظهور الأعراض ( الحمى , السعال , صعوبة التنفس , و قد تؤدي إلى الوفاة )  في 3  نيسان 2020 بلغ عدد الإصابات المؤكدة عتبة المليون شخص حول العالم, من بينهم أكثر من 54 ألف حالة وفاة و حوالي 218 حالة تماثلت للشفاء , وفي 27 نيسان 2020 تخطى عدد المصابين الثلاثة ملايين شخص على مستوى العالم.

لا يوجد علاجات محددة أو فعالة ضد الفيروس إلا أن معظم الدول اتخذت بعض الإجراءات الاحترازية مثل العزل، تعليق الرحلات الجوية، إغلاق المدارس، التباعد الاجتماعي  …….الخ

إلا أن منظمة الصحة العالمية قد أوصت بغسل اليدين بشكل منتظم، و تغطية الفم والأنف عند السعال وتجنب الاتصال عن قرب مع أي شخص يظهر عليه أعراض المرض في الجهاز التنفسي  ( مثل السعال ) .

العزل .. وقطع التواصل المشترك

اختلفت طرق التعامل مع الأوبئة و التصدي لها باختلاف الحقبة الزمنية و الإمكانيات المتاحة، كما تباينت الآثار التي خلفتها، إلا انه في كل الأوبئة التي اجتاحت العالم كان هناك عاملان مشتركان في التعامل هما : عزل المصابين وعزل المناطق التي يتفشى بها المرض و قطع التواصل معها.

و بالإضافة إلى هذه الأوبئة يوجد أمراض تحصد أرواح الملايين سنويا” و لا يتعامل معها على أنها أوبئة تشكل خطرا مثل السرطان والقلب والسكري لأنها لا تنتقل بالعدوى، وهناك فيروس يقتل آلاف الأطفال يوميا” اسمه الجوع وله لقاح يسمى الطعام، إلا أن ذلك لا يلقى اهتماما” دوليا”.