علي محمود جديد :

ليس من السهل أن أنسى ذلك المدرّس الذي جاء يرتدي ( مريولاً ) أبيض أنيقاً ليدرسنا مادة العلوم، وكنتُ وقتها في الصف الثامن الإعدادي، وعامنا الدراسي في ذلك الحين كان العام ( 1971 – 1972 ) أمّا المكان ففي ثانوية الشهيد فايز كردغلي في قرية دوير بعبدة التابعة لمنطقة جبلة ومحافظة اللاذقية .
كان ذلك المعلم بشوش الوجه أريحيّاً لطيفاً، يتخذ طلابه كأصدقاء، مخترقاً بذلك الطابع السائد للمعلمين والمدرسين في ذلك الزمان، الذي كان يقوم على قساوة المعلمين وزجرهم لطلابهم وضربهم أحياناً وإن بنوايا حسنة تقوم على ضرورة أن يدرك الطالب مصلحته ويهتم بمستقبله.

ولكن مدرس العلوم هذا الأستاذ ( رفيق صالح ) لم يكن مقتنعاً بهذه الطريقة ولا بهذا المفهوم فلم يمارسه، ولم يقترب منه، بل كان يحرص على الاقتراب منّا، فلا نراه إلاّ مبتسماً في وجوهنا، ويمسح بيده على رؤوسنا، أو يضع يده على كتفنا ويطمئن عن أحوالنا ودروسنا، واستطاع الأستاذ رفيق بطريقته الحضارية أن يُحبّبنا بدروس العلوم التي كانت تعكس طريقة تفكيره هو أيضاً، حيث يحرص على عدم الاكتفاء بالجانب النظري من الدرس، فيتجه قدر الإمكان – ورغم ضعف الامكانيات – نحو النهج التطبيقي، فأتذكر مثلاً أن بعض الدروس عن النبات كان يأتي ببعض النباتات الحقيقية ليوضح لنا أقسامها، وكان يُجري بعض التجارب الزراعية الأخرى في المدرسة، إذ يزرع بعض البذور في أصيص ويغطيه بالقطن المبلل بالماء – على ما أذكر – ثم يأتي لنا بالأصيص بعد أيامٍ قليلة ليوضح لنا كيف يتم إنتاش البذار ونموها لتخرج نبتة فوق الأرض.

من الصعب أن أنسى هذا الأستاذ المختلف والمتألق رغم أنه لم يعلمنا سوى عام واحد ولكن طيفه ظل يراودني سنيناً، إلى أن دخلتُ عالم الصحافة في ثمانينات القرن العشرين، وكنتُ مندوب أخبار لصحيفة الثورة الحكومية، وقد كانت فرحتي عامرة وقتما قصدتُ مركز البحوث العلمية الزراعية بجوار مدينة دوما التابعة لدمشق – ولم تكن وقتها قد انفصلت محافظة الريف عن العاصمة – كانت فرحتي عامرة وقتما تفاجأت بأن المدير العام لمركز البحوث هو الدكتور رفيق صالح، الذي كان أستاذي في الصف الثامن .

ومرّت الأيام وتنقّل الدكتور رفيق إلى هنا وهناك، ترك البحوث الزراعية ليصير عميداً لكلية الزراعة في جامعة دمشق، ومن ثم صار واحداً من كبار المستشارين الزراعيين في إدارة المشاريع الانتاجية ليتم انتخابه مؤخراً على مستوى الوطن العربي كمدير عام للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة ( ACSAD ) والذي يتخذ من سورية مقراً له .
هذا المدير العام لمركز أكساد العربي الذي يمتد نشاطه من المحيط إلى الخليج ( أستاذي في الصف الثامن ) هو ضيف تلميذه اليوم وضيف سوريانا على صفحاتها ليتحدث لنا عن رفيق وعن الزراعة وعن اكساد .

( مقدمة لقاء صحفي أجريته مع أستاذي الدكتور رفيق صالح، ونُشر بتاريخ 13 كانون الأول 2009 في مجلة سوريانا الذي كان ضيفاً عزيزاً عليها وعلى قلبي )
اليوم أستاذي الدكتور رفيق صالح حلّ ضيفاً على الرحمن، توفّاه الله وانتقل إلى رحمته تعالى .. راجياً السلام لروحه ولقلبه الطمأنينة.
مانشيت اللقاء معه في مجلة سوريانا كان :
( د . رفيق صالح : لا أقبل أن أكون عابر سبيل ويجب أن أترك أثراً في أكساد )
وفي الحقيقة أنه لم يكن مجرد عابر سبيل في أكساد ولا في الحياة ككل، إذ قدّم مبادرات زراعية جمّة على مستوى سورية والوطن العربي، وأنا على علم كيف كان يساعد الناس والمحتاجين .. ومجتمعه، وكنت شاهداً في مكتبه يوماً على تبرعه بعشرات الملايين من الليرات السورية من أجل ترميم مدرسة متهالكة.
رحم الله روحك الطيبة أستاذي الجميل الدكتور رفيق صالح .. آملاً منه تعالى أن يغفر لك ويرفع مقامك إلى علّيين .. وأن يلهم أسرتك وأهلك وذويك وأحباءك الصبر والسلوان .. ” إنّا لله وإنّا إليه راجعون ”
