جديد 4E

كان سيفاً يحمينا .. ومظلة نتفيّأ تحت ظلالها .. عميداً باسمه وفعله .. بأمان الله يا أستاذ عميد خولي .. لروحكَ السلام ولعينيك المحبة

 

علي محمود جديد :

كان مختلفاً ومتميزاً بكل شيء .. بشكله وأناقته .. وبمضمونه الجامع بين الهيبة والقوة والشجاعة والحنان .. وحتى بخطوط توقيعه البهيّة الخضراء بصورتها العمودية خلافاً عن إمضاءاتنا الأفقية غالباً .. صاحب قرار حاسم بلا تردد، وصانعٌ بارع للسكينة والاطمئنان .

أجل .. لم نكن نشعر بأي قلق من أحد عندما كان ( عميد خولي ) يقود العملية الإعلامية في صحيفة الثورة على مدى عقدٍ ونيف .. ولا يراودنا الخوف من أي انفجارٍ بمسيرنا في حقول الألغام الإعلامية، فمواقفه كانت كاسحة لها دفاعاً عن رسالتنا الصحفية بوجوب نقل الحقائق، وكي لا نتراخى ولتستمر أقلامنا قوية عصيّة على الانكسار.

في أحد المرات – في تسعينات القرن الماضي – كتبتُ تحقيقاً صحفياً عن أحد المتنفذين الأقوياء الذي أساء استخدام سلطته بشكلٍ فاقع، إذ كانت الجهات المختصة قد خططت لشق طريق عريض يمرّ بجوار العديد من القرى، وراعت تلك الجهات بمخططها – قدر الإمكان – عدم إيذاء الأراضي التي يزرعها فلاحون كادحون، باعتبار أن تلك الأراضي تُضيف شيئاً ما إلى الإنتاج المحلي، كما أنها مصدر رزقٍ لمئات الأسر الريفية الطيبة.

هذا المخطط لم يرُقْ لذلك المتنفذ لأن الطريق بقيت بعيدة عن أراضٍ واسعة يملكها هو، ما يعني أن ثمنها سيبقى بخساً وأهميتها ضعيفة، فتحرّكت نوازعه الطامعة ليتدخّل بقوة في عمل تلك الجهات المختصة وأمَرَهُم – وكان يأمر فعلاً – بتغيير المخطط كي تمرّ الطريق بجوار أرضه فيتضاعف ثمنها وتكتسب موقعاً هاماً جداً، غير أن تغيير المخطط بهذا الشكل الذي يريده لا يتم إلا على حساب الفلاحين ودمار مساحات شاسعة من أراضيهم وتشريد العديد منهم.

هنا تدخلنا كصحافة، بعد أن قدّم الفلاحون شكواهم إلى ( جريدة الثورة ) فكلّفني الأستاذ عميد بمتابعة الأمر عبر تحقيق صحفي ميداني وشدّد على أن يكون نزيهاً ودقيقاً، فنظّمتُ إذن سفر ووقّعه لي بتوقيعه الأخضر البهي العمودي، وانطلقتُ في اليوم التالي إلى المحافظة التي تجري فيها تلك الوقائع، وأجريت التحقيق ميدانياً مُدعّماً بالصور والوثائق والإفادات، ثم عدتُ إلى الصحيفة فكتبتُ التحقيق الصحفي ورفعته للنشر، فوافق عليه الأستاذ عميد بكل جرأة وبلا تردد.

 

في اليوم التالي – وكان التحقيق قد صار منشوراً في الصحيفة الورقية وموزّعاً في أنحاء البلاد – اتصل بي الأستاذ عميد ودعاني إلى مكتبه، وأخبرني أن ذلك المتنفذ يريد أن يلتقي بي، وقال : ستراهُ غاضباً .. لا تخف .. معك وثائقك ومعطياتك القوية، اسمع ماذا يريد أن يقول .. وعد إليّ .. أنا هنا بانتظارك.

ذهبتُ إلى مكتب ذلك المتنفذ وأنا مطمئن إلى حد كبير من كلام ودعم أستاذنا عميد خولي، ولكن وعلى الرغم من ذلك كنتُ أشعر ببعض القلق على الطريق عندما أناقش الوضع بيني وبين نفسي وأقول : لعلّ هذا المتنفذ ركب رأسه وتصرّف معي بحماقة بعيداً عن الأستاذ عميد .. ثم أشجّع نفسي بأنه لن يجرؤ .. فأنا بحماية عميد ورعايته.

وصلت فأخبروه أنني هنا وأدخلوني إليه .. كان جالساً خلف مكتبه المهيب، تقدّمتُ نحوه .. بقي جالساً ينظر إليّ بغضب شديد .. حاجباه مُقطبان .. وكأن الشرر يتطاير من عينيه .. تقدّمت نحوه بخطوتين وأنا أنظر إلى وجهه الذي بدا أصفراً من شدّة غيظه .. تقدّمتُ أكثر فقام عن كرسيّه وبقي واقفاً وراء مكتبه ليمدّ يده مُصافحاً .. مددتُ يدي وأنا أنظر إلى يده الممدودة نحوي .. كانت ترتجف سخطاً .. سلّمت عليه وعدتُ خطوتين إلى الوراء .. فقد خفتُ أن يصفعني .. بقي واقفاً ولم يدعوني للجلوس فبقيتُ أنا كذلك واقفاً .. وراح يتكلّم ويُسفّه كل ما كتبته ويزعم أنني أخطأت فيما ذهبتُ إليه وأنه هو لم يتدخّل مع أحد، وإنما تلك الجهات المختصّة هي التي ارتأت تغيير المخطط وهو لا علاقة له بالأمر.

كان الحوار ( ديمقراطياً جداً ) من طرفٍ واحد، فلم يُعطني الوقت للدفاع، وقال لي : عليك أن تذهب الآن وفوراً إلى الوزير الفلاني ( وحدّده لي بالاسم وهو الذي كان معنياً بالأمر ) ليعطيك تصريحاً على شكل ردّ مخالف لما ورد في الصحيفة، وعليك أن تنشر ما يقوله لك بالحرف .. هو بانتظارك الآن .. انتهت المقابلة.

خرجتُ من مكتبه مُربكاً ومضغوطاً .. وقلتُ في نفسي: بلا وزيرٍ ولا أمير .. سأذهبُ إلى أميري فقط .. إلى عميد خولي الذي ينتظرني في مكتبه أيضاً، وسأقول له بأنني لن أقبل بما قاله ذلك المتنفذ مهما تكن العقوبة.

وصلتُ إلى مكتب رئيس التحرير والمدير العام الأستاذ عميد خولي وكان بانتظاري فعلاً .. سألني ماذا حصل ..؟ فرويتُ له الحكاية .. فغضب وكزّ على أسنانه .. ولم ينتظرني حتى أقول له بأنني لن أقبل بما قاله ذلك المتنفذ .. ضرب بيده على طاولة المكتب وقال كلاماً كبيراً، ثم قال لي : لا ترد عليه .. ولا تذهب إلى عند أحد .. اترك الأمر عليَّ وأنا أتدبّر الموضوع .

وبالفعل تدبّر الموضوع .. وجابَهَ مَن جابه، والصحيفة لم تقم بنشر أي ردّ، ولم تكترث، فيما لم تجرؤ أي جهة من الجهات على الرد خطياً، لأنهم أدركوا – من خلال الأستاذ عميد – أن التعقيب على الرد سيكون أكثر إيلاماً، أمّا أن نذهب ونستجدي تصريحاً يخالف ما كتبناه فهذا ما استطاع الأستاذ عميد أن يكبحه ويلغيه في أرضه .

هكذا كان الأستاذ عميد خولي الغالي سيفاً يحمينا .. ومظلة نتفيّأ تحت ظلالها .. ولم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة معي .. ولا مع غيري من الزملاء، فهناك مجابهات كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى كان الأستاذ عميد فيها فارساً لا يُجارى .. وعميداً باسمه وفعله، وبطلاً حقيقاً بمواقفه الصلبة المُحقة وبحمايته القوية للصحفيين .. فانتعشت جريدة الثورة وأبلت بلاءً رائعاً في عهده، فازداد انتشارها وقرّاؤها .. بمقدار ما كنّا نزداد حماساً واندفاعاً للعمل في ميداننا الصحفي الشيّق .

وعن الأستاذ عميد خولي يمكن أن يُحكى الكثير .. في السياسة والاقتصاد .. والثقافة .. وفي هموم الناس وغير ذلك الكثير.

تحية حبٍّ ووفاءٍ ومودّة لروح أستاذنا العزيز ومعلمنا الغالي عميد خولي .. الذي توفّاه الله يوم الثلاثاء السادس عشر من كانون الثاني .. راجياً من الله تعالى أن يُحسن مثواه .. ويُسكنه فسيح جناته .. وأن يكون ذكرهُ مؤبداً .

بأمان الله يا أستاذ عميد .. بأمان الله وعنايته ورحمته .. أشعر بأن قلبي معك .. فها أنتَ فيه لم تبرحه .. ولن تبرحه .. فقد استطعتَ أن تستحوذ على حيزٍ فسيحٍ من الذاكرة .. وسع الفراغ المترامي الأطراف الذي تركته من بعدك .

رحمك الله أيها المعلم الجميل الرائع .. لروحك السلام .. ولنفسك الطمأنينة .. ولعينيكَ المحبة .