جديد 4E

زياد غصن يكتب : الموقف من فلسطين ليس مزاجاً شعبياً

 

الموقف الشعبي العربي من القضية الفلسطينية ليس مزاجاً يمكن تعديله حسب الرغبة أو ببعض الأوهام السياسية والاقتصادية

 

زياد غصن:

ما شهدته المنطقة العربية من متغيرات سياسية واقتصادية خلال العقد الأخير، لا سيما لجهة العلاقة العربية الرسمية مع الكيان الصهيوني، خلق انطباعاً لدى الكثيرين بأن المزاج الشعبي العربي بات في العموم مهيأ لتقبّل وجود “إسرائيل” في المنطقة، وأن ذلك مسألة وقت لا أكثر. كذلك الأمر بالنسبة إلى موقع القضية الفلسطينية ضمن قائمة اهتمامات المهاجرين العرب إلى الغرب، إذ ظن البعض أن محاولة انخراط هؤلاء في المجتمعات الغربية ستكون كفيلة بفكّ ارتباطهم بالقضايا الوطنية والقومية الأساسية.

لكن، مع العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة، وما ارتكبه ولا يزال من مجازر وجرائم مهولة بحق المدنيين من أطفال ونساء، انتفض الرأي العام العربي ليؤكد مجدداً رفضه للتطبيع مع “إسرائيل”، وتمسكه بتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها مدينة القدس. وهو موقف شكّل انتكاسة لكل جهود التطبيع ومشاريع بعض الدول في المنطقة العربية والعالم الساعية لبناء واقع جديد، بحجة قيادة المنطقة إلى مرحلة من الاستقرار والازدهار.

محاصرة الشعب العربي

مع نجاح “تل أبيب” في التسلل سياسياً واقتصادياً وإعلامياً إلى العديد من الدول العربية، وتمكنها من فتح قنوات اتصال مباشرة وغير مباشرة مع حكومات تلك الدول، وصولاً إلى توقيعها لأربع اتفاقيات سلام جديدة تضاف إلى اتفاقيتَي “كامب ديفيد” و”وادي عربة”، وإطلاق الإدارة الأميركية السابقة بدعم عربي مشروعاً لتصفية القضية الفلسطينية سمّي بـ “صفقة القرن”، سرى اعتقاد، بأن الشارع الشعبي العربي على اختلاف مستوياته وانتماءاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية دخل في حالة من الاستسلام بحتمية العلاقة مع “اسرائيل” عاجلاً أم آجلاً، وأن تلك العلاقة ستكون مدخلاً لصناعة غد أفضل أو لحل المشكلات السياسية والاقتصادية التي يواجهها بعض الدول. وما عزز ذلك الاعتقاد:

-الصمت الشعبي المرافق لتوقيع حكومات 4 دول عربية اتفاقيات تطبيع مع “إسرائيل”، إذ باستثناء بعض التظاهرات الشعبية المحدودة التي شهدتها مدن سودانية، وما صدر من بيانات إدانة واستنكار من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة في البحرين والمغرب والسودان، فإن الرفض الشعبي للتطبيع لم يعبّر عن نفسه كما يجب أو كما كان يتوقع، الأمر الذي مكّن تلك الحكومات من تمرير مشروع تطبيعها مع الكيان الصهيوني من دون مقاومة شعبية تحسب لها حساباً.

-سقوط جدار المقاطعة الاقتصادية، وشيوع ظاهرة التطبيع الاقتصادي والرياضي والسياحي بأشكال وصور متعددة ومختلفة بين دولة وأخرى، فضلاً عن المشاريع الإقليمية والدولية التي تمثل فيها “إسرائيل” طرفاً فاعلاً وأساسياً، لا بل إن بعضها وجد فقط من أجل تسهيل عملية التطبيع الاقتصادي ونقلها إلى مرحلة جديدة جوهرها العلاقات الاقتصادية المباشرة المعتادة. وهذا ما عدّ مؤشراً على قرب التطبيع السياسي الذي كان على ما يبدو بحاجة إلى بعض الرتوش لتقديمه للرأي العام العربي.

-محاولة الغرب ودول إقليمية إيهام الشعب العربي في أقطاره المختلفة بوجود صراع إيراني- عربي، أو صراع سني –شيعي في المنطقة، وذلك لتحويل الانتباه عن الصراع الأساسي مع العدو الصهيوني، ومن ثم تصوير العلاقة مع هذا الكيان على أنها ضرورة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. وللأسف، هناك حكومات عربية عملت على ذلك وسارت في هذا المنحى.

-توظيف بعض وسائل الإعلام العربية أو الناطقة بالعربية لخلق حالة من الاعتياد لدى المواطن العربي لسماع وجهة النظر والموقف الإسرائيلي من مختلف الأحداث في المنطقة. فقبل سنوات عدة، كانت الفضائيات العربية تتناقل صور السياسيين الصهاينة وأنشطتهم للدلالة على إجرامهم وسياساتهم التخريبية في المنطقة، لكن منذ سنوات أصبح ظهور هؤلاء مرتبطاً بأهداف وغايات أخرى تبرر بالسعي إلى نقل الأحداث بموضوعية ومعرفة بماذا يفكر الآخر وماذا يقول!

ولعل مساحة التغطية التي أفردتها وسائل الإعلام في بعض الدول العربية للعدوان الإسرائيلي على غزة، واستمرار بعضها في بث برامجه الترفيهية “السطحية” على مدار الساعة، رغم هول المجازر المرتكبة بحق الأطفال والنساء في الأراضي العربية المحتلة يؤكد ما ذهبنا إليه.

-ممارسة الدول الغربية الداعمة والمؤيدة لـ”إسرائيل” ضغوطاً سياسية واقتصادية على بعض الدول العربية الرافضة للتطبيع، وصلت إلى مرحلة الحصار الكامل كما في سوريا واليمن، واختلاق الأزمات الاقتصادية كما حصل للعراق ولبنان، وكل ذلك بهدف تغيير المزاج الشعبي في هذه الدول ليصبح متقبلاً ومؤيداً للتطبيع مع الكيان الصهيوني، لا بل ومطالباً به ما دام يمكن أن يشكل مخرجاً له من الأوضاع التي يعيشها. وإذا كانت حكومة الخرطوم قد وقعت في هذا الفخ اعتقاداً منها أنها قد تتخلص من العقوبات الأميركية وهذا ما لم يحدث، فإن الأمر لم يمر كذلك في الدول الأخرى.

 طوفان رفض التطبيع

وعلى أهمية التظاهرات الشعبية العربية المنظمة من قبل المؤسسات والهيئات والأحزاب السياسية والنقابية والفكرية، والتي جابت خلال الأيام القليلة الماضية شوارع العديد من العواصم والمدن العربية، احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة وتضامناً مع الشعب العربي الفلسطيني، فإن اللافت هو “طوفان” المواقف الشعبية الأهلية والمدنية التي أسقطت مقولة البعض من أن المزاج الشعبي يتغير لصالح العلاقة مع “إسرائيل”، ليكتشف مؤيدو التطبيع أن ما فشلت به اتفاقيات “كامب ديفيد” و”وادي عربة” لن تنجح فيه الاتفاقيات “الإبراهيمية” مهما روّج لها ودعمت غربياً، وأن الموقف الشعبي العربي من القضية الفلسطينية ليس مزاجاً يمكن تعديله حسب الرغبة أو ببعض الأوهام السياسية والاقتصادية، وأن الشباب العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، لم تسرقه تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات من قضاياه الوطنية والقومية.

وهذا “الطوفان” الشعبي غير المنظم سياسياً ومؤسساتياً عبّر عنه بأشكال عدة منها:

-المشاركة في الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات الشعبية المنظمة وغير المنظمة، والتي شكلت دليلاً واضحاً على أن الموقف الشعبي من “إسرائيل” بوصفها كياناً محتلاً ومغتصباً للحقوق ومجرماً لم يتغير. ولعل ما قامت به “تل أبيب” من عمليات إجلاء لطواقم سفارتها في عدد من الدول العربية والإسلامية هو بمنزلة اعتراف أن التطبيع الشعبي لا يزال بعيد المنال، وإن كان هناك تطبيع رسمي.

-استثمار شبكات التواصل الاجتماعي للتعريف بقضية الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من جرائم ومجازر تحاول وسائل الإعلام الغربية، وبعض مالكي وسائل التواصل الاجتماعي التعتيم عليها لصالح الكيان الصهيوني وسياسات الغرب الداعمة له. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الحضور العربي المؤيد للقضية الفلسطينية على شبكات التواصل لم يكن حكراً على دولة بحد ذاتها، وإنما كان شاملاً لجميع الدول حتى في تلك التي ركبت حكوماتها قطار التطبيع.

-تحدي المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين لتهديدات الحكومات الغربية التي منعت التظاهرات والفعاليات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني وما يتعرض له، مهددة إياهم بسحب الجنسية وعقوبات بالسجن والترحيل.

وقد كان لجهود هؤلاء أثرها في توسيع دائرة التضامن والتأثير في توجهات الرأي العام الغربي ومواقف بعض قادته ووسائل إعلامه وغير ذلك. وإلى جانب الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي تحدت الإجراءات الغربية، فإن الكثير من النجوم الرياضيين والمنحدرين من أصول عربية لم يترددوا في إعلان مواقف منددة بجرائم الاحتلال الصهيوني، رغم التهديدات التي تلقوها بإلغاء تعاقداتهم وسحب الجنسية.

-الجهود الجبارة التي بذلها مراسلو وسائل الإعلام العربية لنقل حقيقة ما يجري على الأرض فعلاً، متحدين في ذلك مخاطر الاستهداف المباشر من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وقطعان المستوطنين. فإذا كان هؤلاء في هذا المقام يؤدون واجبهم الإعلامي والمهني، فإن إيمانهم بعدالة قضية شعبهم العربي يجعلهم يخاطرون بحياتهم لإيصال الصوت والصورة المراد غربياً وصهيونياً تغييبهما عن الرأي العام العالمي.

فقط تقليل الخسائر

قبل أيام، كان جل اهتمام بعض الحكومات توسيع دائرة التطبيع وتغيير المزاج الشعبي العربي ليقبل بالعدو صديقاً، فجاء “طوفان الأقصى” ليجعل من أقصى أحلام تلك الحكومات مجرد تقليل خسائرها من جراء دخولها في دائرة التطبيع كأن تمنع سقوط حلقات سلسلة التطبيع المتحققة واحدة تلو الأخرى، وألا يلحق المزيد من الضرر بصورتها المترسخة في أذهان الشعب العربي كحكومات تواطأت جهاراً ونهاراً على القضية الفلسطينية والحقوق العربية المشروعة.

( الميادين نت )