جديد 4E

العالم الافتراضي: الحرب القادمة بين تنمية المهارات واستثارة العواطف

 

من يفكر من أهل الشرق خارج السرب يبدو انه لا يشرق إلا في الغرب

 

دريد درغام *:

في الثمانينيات كنت في فرنسا أدرس وكنت في الصيف أعمل في شركة وذات يوم طلب المدير أن نبقى لوقت إضافي فاعتذر أحد الزملاء الفرنسيين في العمل وكان شاباً ضخماً بعضلات مفتولة. وعندما سألته عن السبب قال لي أن راتبه لا يكفي وبالتالي يضطر للعمل في إحدى شركات الترفيه وتسويق خدمات العلاقات بين الناس (من سلف الانترنت: المينيتل في فرنسا). وبما أن معظم المهتمين كانوا من الذكور وبحاجة للتفاعل عبر الشبكة مع أكبر قدر من الإناث؛ كانت وظيفته أن يمثل دور امرأة تكتب عبارات وألفاظ يحبها الذكور وكان تعويضه أكبر كلما استطاع إبقاء الاتصال لأطول فترة ممكنة حيث أن الشركة كانت تزيد أرباحها كلما زاد عدد دقائق الاتصال.

مع مرور الزمن تمت الاستعاضة عن أمثال هذا الشخص ببرامج ذكية. وتعتبر الإنترنت وثورة المعلومات والذكاء الصناعي من أهم الثورات التي حدثت بتاريخ الإنسان حتى الآن؛ فقد استطاعت تقديم كميات مهولة من المراجع وسهولة التعليم والتعلم لمن يرغب ولمن يستطيع التنقل بين هذه المراجع واختيار المفيد منها. وبقدر ما تسهم ثورة الذكاء الصناعي بتطوير هذه المهارات فقد استطاعت أيضاً اللعب على استثارة العواطف والتفنن في إضاعة الوقت بامتياز.

وامتطت شركات الترفيه هذه الموجة الحضارية وأصبح هاجسها الأكبر جمع أكبر قدر من المعلومات عن الشخص وتمرير العديد من الأفكار والدعايات المباشرة أو غير المباشرة بالإضافة إلى ضرورة استبقاء الزبون أمام الشاشة لأطول فترة ممكنة. وبدلاً من القراءة والتمعن بما يكتب والحوار فيه مع الخير للوصول إلى قناعات أغنى تمكنت شركات الذكاء الصناعي من تركيز المستخدم على الحوار مع محركات البحث الذكية وذلك من خلال نقلات نوعية متتالية:

  1. شركات الألعاب بمختلف أنواعها: حيث يدمن الكثيرون عليها ومع أن بعضهم قد يكسب المال من الفوز بعد إمضاء أشهر طويلة عليها فإن الهدف الواضح منها هو التسلية وبالتالي إضاعة الوقت للوصول إلى تسطيح الذهن (باستثناء بعض الألعاب التي تتطلب مهارات فكرية مهمة مثل الشطرنج وغيره).
  2. شركات الترفيه التي استفادت من الذكاء الصناعي لدرجة انها أصبحت قادرة على استقراء ما يريده من خلال ما يتصفحه وما يكتبه وبالتالي إقناعه بأن خير جليس في الزمان هو تلك الشاشة الافتراضية. ومع ثورة الذكاء الصناعي تحول الأمر إلى خلق شخصيات عجيبة أصبحت الصديق الصدوق للكثيرين فهي تفهم ما يريدون وتسمعهم ما يحبون وتتفاعل بطريقة ذكية وهي ظاهرياً تحفظ الأسرار التي لا يعرفها إلا “أصحاب الشأن المستترين في مكاتبهم الخفية”. ومن هذه الشخصيات “شياوجي Xiaoice ” التي أنشأها الفرع الآسيوي لشركة مايكروسوفت بالاعتماد على الحوسبة العاطفية. فقد انطلقت عام 2014 بصفة فتاة افتراضية بعمر 16 سنة قادرة على أن تكون شاعرة ومغنية ومصممة؛ ومع اعتراض الحكومة الصينية على بعض إجاباتها الناقدة للأداء الحكومي تمت الاستجابة من قبل الشركة المبرمجة لطلبات الحكومة، وبعد عامين أصبح عمرها 18 وبناء على طلبات عشاقها الصينين تم تثبيت عمرها على 18 سنة. ومع انتشارها في اليابان والصين وفرع الصين أصبح لديها مئات الملايين من العشاق او الأتباع أو ما تريدون تسميته من مدمني هذه الفتاة.
  3. في الشرق الفقير تحول التعليم تدريجياً إلى عمليات حفظ وإعادة ما تم حفظه من نوطات ما تزال تختزل لدرجة أنها أصبحت بضع نماذج من الأسئلة المكررة في كل عام. ويبدو أن عمليات الحفظ والإعادة مترسخة في الذهن العربي وفي اللغة العربية التي منحت طالب الدراسات العليا لقب “معيد” لأنه عبر التاريخ كان المعلم في كل مجال يبحث عن الطالب الأقدر على الحفظ ليعيد ما سمعه من المدرس على أقرانه الطلاب.

لا يجوز التهجم على تشات جي بي تي ومثيلاته أو التركيز على السلبيات (ومنها ما أشرنا إليه في البوست السابق). إن عالم الذكاء الاصطناعي يقدم وباقتدار موسوعة مع “معيد” فوري وجاهز دوماً مجاناً لأي مستخدم للانترنت يتيح له لتقديم وجهات نظر متباينة تسمح لمن يرغب أن يفهم المحيط (أي أن يصنع “الصندوق” الذي أدمن أقرانه العيش فيه)؛ ولكن النقلة الأهم أنه يسمح لمن يستطيع ويرغب أن يجدد طرائق التفكير للخروج عن سحر ذلك “الصندوق” وسطوته. وهنا نجد أننا أمام تساؤلات مصيرية منها:

  1. تمت إتاحة التشات جي بي وغيره كمنتج لشركة غير ربحية! مع أنها بممارساتها تقوم على إتاحة نسخ مجانية (منها بعدد أسئلة محدودة ومنها بعدد أسئلة غير محدودة ولكن بدون خيارات متقدمة مثل الصور أو المخططات) ومنها نسخ غير مجانية (تسمح بخيارات أكبر بكثير). فما هو الحجم المتوقع لهذا السوق الجديد؟
  2. هل سيقتنع أصحاب القرار في الشرق بضرورة التحول السريع من التعليم إلى التعلم؟ يتيح العالم الافتراضي للمدرسين قبل الطلاب التعلم وتوسيع المدارك بطرق مختلفة. يتطلب الأمر التحول من الكم الهائل من شاغلي مقاعد الدراسة إلى عدد أقل ومعقول من شاغلي العقول وتحويل جزء مهم من المنهاج إلى جلسات حوار لتغيير منهجية التفكير والانتقال من حفظ ما يعرفه المدرس إلى نقاشات أرحب تجعل كلاً من المدرس والطلاب أغنى بفكرهم.
  3. هل سيقتنع الفكر المناهض لأحادية القطب بضرورة البحث عن أسباب بحث مايكروسوفت عن الحوسبة العاطفية في آسيا وعدم وجود تشات جي بي تي مصنعة في الصين وللصين بدلاً من اعتبار اللغة الصينية وغيرها من ضمن مفردات تشات جي بي تي الأمريكي. وقد يكون تركيز الحوسبة الفائقة للمعلومات المعركة في المجال الفكري أقسى وأمضى من العسكري او الاقتصادي؛ وبالتالي سيكون لهذا النوع من تطبيقات الذكاء الصنعي أهمية أكبر من أهمية تأمين بدائل للدولار وللسويفت وغيرها من احتكارات الغرب..

في جميع الأحوال بعد اكتشاف الشرق للأعداد والكتابة لضرورة تثبيت مختلف أنواع الحقوق والسجلات التجارية والشخصية مع قليل من الآداب وبعض الأساطير، تحول معظم أهله إلى “معيدين” دائمين لأبيات الشعر أو الدعوات أو الصلوات أو الأمثال أو المفردات التدريسية دون تفكير معمق في معانيها ومضامينها وجدواها في هذا العصر. لقد أدمن هذا الشرق العيش في ثنايا الأساطير وحكايا الأولين وعوالم الغيب وتفنن في استعداء من يفكر من أبنائه خارج السرب. ومن يفكر من أهل الشرق خارج السرب يبدو انه لا يشرق إلا في الغرب.

*حاكم مصرف سورية المركزي الأسبق – عن صفحته الشخصية