جديد 4E

مسيحيو اللاذقية .. نهضويون حلموا بسورية رائدة

 عبد المنعم علي عيسى :

تأخر مسيحيو اللاذقية عن ركب موجة النهوض التي ركبها أشقائهم في لبنان منذ منتصف القرن التاسع عشر ، والفعل يعود بالتأكيد للخصوصية التي تمتعت بها ” متصرفية جبل لبنان ” والتي أشاعت في محيطها مناخات مساعدة لركب تلك الموجة ، في حين ظلت الشام ، ومحيطها ، مرتهنة لحركة حجر الرحى العثماني حتى خريف العام 1918 ، حيث سيمهد وقوف دوران هذي الأخيرة ، في هذا العام الأخير ، الطريق أمام اللحاق بالقافلة التي كانت قد قطعت شوطا ليس باليسير .

  • ستشهد اللاذقية في حقبة العشرينات من القرن الماضي مناخات كانت في خلفيتها تعود لانكسار قطبي الرحى الضاغط على البذور محطما ” رشيمها ” القادر على الإنتاش ، كانت أولى البذور الناجية ، من الطحن ، تعود بالدرجة الأولى للخلايا ” المدينية ” لاعتبارات تتعلق بالفوارق الكائنة ما بينها و بين نظيرتها في الريف ، وفي مطلع الحقبة آنفة الذكر ستقذف ” المفرخة ” المسيحية برعيل كان له دور واسع في نشر الثقافة والتنوير ، بل ومحاولة التجديد فيهما ، وصولا إلى تكريسهما كحالة إسنادية داعمة لهوية وطن أصابها الكثير من التمزق بفعل ” الإرث العثماني ” الذي كان يقف حجر عثرة أمام حراك يصل في مراميه لاستعادة التوازن لتلك الهوية التي لم يكن ينقصها الإرث ولا المخزون لنجاح الفعل .

في حفل أقيم على شرف جبرائيل سعادة في باريس العام 1970 وصف عالم الآثار الفرنسي أندريه بارو الأخير بقوله ” هذا الرجل الذي أمامكم هو عالم آثار ، لكن عالم الآثار هذا شاعر لأنه يعشق الوطن ”

جبرائيل سعادة

كان سعادة المولود في العام 1922 قد بدأ يتلمس ملامح ، وطريق ، النهوض في مطالع الشباب ، وفي تلمسه ذاك كانت الأدوات المتوافرة لديه عديدة ، لكنها كلها كانت تصب في جداول تتلاقى في نهاياتها عند البحر السوري الذي ظل مؤمنا بأنه كان ، وسيظل ، شاطئا يستولد الحضارة تلو الأخرى ، وهو لا يمل التكرار إذ لطالما كان الفعل الذي يستحضر القديم قادر أيضا على ضخ المزيد مما استحدثته متغيرات الزمن ، لتأتي الصورة كما سلسلة متصلة فيما ” الخرزات ” فيها تبدي اختلافا من النوع الذي يوحي بتباينات فيها .

رحل سعادة ، المؤرخ وعالم الآثار والكاتب والموسيقي ، عن عالمنا العام 1997 دون أن يكمل مشروعه ، لكنه حلم بخلق جيل ” يتعلم السباحة قبل الكلام ” مثل ” الأرواديين ” كما قال ، وعبر إرثه الذي تركه ، والذي لم يلق الكثير من الإهتمام ، يصح توصيفه بأنه من ” كبارنا المنسيين ” دون أن يعني ذلك فشل الانغراس في ذات سورية تبدو وكأنها تستنسخ الجموح .

حنا مينة
  • سيولد حنا مينة بعد سعادة بعامين ، وعلى الرغم من تشابه البيئة الثقافية والمناخية والمجتمعية ، إلا أن البيئة الطبقية كانت تسجل اختلافا صارخا ما بين الإثنين ، إذ تقول السيرة الذاتية لحنا مينة أنه عمل ، تحت ضغط الفقر ، حمالا في المرفأ ، ثم صبي حلاق ، قبيل أن تعتمل القدرات فتدفع بالفتى نحو الصحافة والكتابة ، وعلى الرغم من أن السيرة تسجل أنه من مواليد لواء اسكندرون الذي غادره بعد العام 1939 ، إلا أن اللاذقية ، التي قدم إليها بعد هذا التاريخ الأخير ، شكلت حاضنة الذكريات و محطة تفتح الوعي ، لترسخ في الذاكرة بجبالها و بحرها ، عالما شموليا يريد أن يعممه على باقي محطات العشق ، فهو سيقول ” أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر ، أو ينتقل البحر إلى دمشق ، أليس هذا حلما جميلا ؟ والسبب أنني مربوط بسلك خطي إلى الغوطة ، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة ، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون ، ومغرم متيم ببردى ، لذلك أحب فيروز و الشاميات ” ، والقول يكشف عن نفسية طموحة لكنها منكسرة على عتبات التجربة التي قادته لأن يكون شيوعيا ، حيث الإيمان هنا مرتبط بحبال الأمل ، فما كان يروج عن الشيوعية من مصطلحات ” العدالة والمساواة ” كان يمثل بالنسبة إليه ، وللكثيرين ، الأمل الوحيد في الوصول إلى واقع جديد بعيد عن ذاك الذي يعيشه ، والإنكسار عينه يظهر بطريقة فاقعة في وصيته التي كتبها العام 2008 ، والتي كشفت عن انهدامات تطول التجربة لكن مع التمسك بعشق صوفي لغاليته سورية التي قال أنها قلادة لا يريد لها أن تغادر صدره ، وهي ظلت حتى آخر أنفاسه التي لفظها العام 2018 .
  • كانت أدوات المشروع الذي جاء به الياس مرقص ، المولود بعد خمس سنوات من الأول وثلاث من الثاني ، مغايرة لأدوات سلفاه ، وإن كانت المرامي متطابقة ،
    الياس مرقص

    فمرقص الذي انخرط في الحزب الشيوعي السوري مبكرا زمن خالد بكداش ” المنغمس بالستالينية ” كما وصفه ، لم يكن ذلك العضو الذي تلقى عليه الأفكار فيتلقفها كإسفنجة ، بحكم نزعة هي أقرب للتمرد جاءت بالولادة لكنها تعمقت بفعل التجربة وكذا بفعل النوافذ ، نوافذه ، التي قرر أن يبقيها مشرعة على الرياح التي تهب من كل حدب و صوب .

كان مرقص يعود في منبته الطبقي إلى بيئة برجوازية لكن ذلك لم يحل بينه و بين أن يصبح من أهم المفكرين الماركسيين العرب ، والشاهد هو أنه كان الأميز بين هؤلاء ، ما استدعى ، وذاك أمر لا يتجاوز الطبيعي ، أن يصنف إشكاليا في البدايات ، ثم ” منحرفا ” قبيل أن يعمد إلى تصنيفه ك ” مرتد ” الذي قاد نحو فصله من الحزب العام 1956 .

كانت قراءة مرقص لأسباب ضعف الحزب ، حزبه ، تعود إلى مواقفه من قضية فلسطين ، الذي كان يشوبه لبس ، وكذا موقفه من الوحدة التي كانت تمثل ” سدرة المنتهى ” لشارع عربي حالم بالنهوض ، ولذا فقد ذهب في منهجه ، الذي ابتناه بعد عودته من بلجيكا ، نحو ملاقحة الماركسية بأفكار القومية العربية ، وعلى الرغم من أنه استطاع حل المشاغل النظرية لذلك المزج ، إلا أن المرامي ظلت بعيدة على وقع هزيمة المشروع العربي حزيران من العام 1967 .

ارتكزت فلسفة مرقص على ثالوث ( الفرد – المجتمع – الاختلاف ) وفيها ارتأى أن إلغاء الأول يعني بالضرورة إلغاءً للثاني ، وأن الاختلاف هو عنصر طبيعي في تكوين الخلية الأساسية للبنيان المجتمعي ، وفيما يخص رؤيته للنهوض العربي قال أن الوحدة هي السبيل الوحيد لهذا الأخير ، وأن قيامها مرتبط بإعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعقلانية و ديمقراطية ، أما الثورة العربية فقال أنها لا تتحقق إلا بشرط القطيعة مع التقليد التي تفترض تحرير العقل من فرضياته السابقة مسجلا بذلك تثقيلا لل ” الفكري ” على ” السياسي ” .

رحل الياس مرقص منكسر الحلم هو الآخر ، و في آخر أحاديثه كانت نزعة التشاؤم بادية عليه ، بعد أن أضحت رموز النصف الثاني من القرن الماضي ” دينية ” و ” يمينية ” في الوقت الذي كانت فيه ” ثورية ” و ” يسارية ” في نصفه الأول .

لا تشير الانكسارات التي عاشها هذا الثالوث سابق الذكر إلا إلى نسيج حيوي ما انفك يستنهض الإرث والتراث لرسم معالم حاضر أفضل يتبعه مستقبل مشرق لكنه شديد الالتصاق بهما .