جديد 4E

الجري خلف السراب

عبد الحليم سعود

 منذ قرابة الخمسين عاماً من رياضة الجري والزحف والتسلق خلف الرغيف بأنواعه (تنور، صاج، مرقد، مشروح، راس بعبو، نخالة، شعير وأخيراً السياحي” اكتشفت أني مواطن غير صالح للسياحة بأي شكل من الاشكال، إذ لا أصلح في هذه الظروف المعيشية الشديدة الصعوبة والوطأة ــ مع إضافة المستجد الكوروني ــ أن أنتقل إلى ضاحية تنتمي للعاصمة لغرض سياحي، فكل نشاطاتي في المجال السياحي لا تتعدى الجلوس في حديقة عامة، أو زيارة سوق الحميدية أو المتحف الوطني، وأعتقد جازماً أنه إذا توقف رزق المستثمرين في المجال السياحي والفندقي والنقل على نشاط أمثالي في السياحة، لكسروا الدف وبطلوا الغناء، وربما جلس البعض منهم على أسطحة بناياتهم العشوائية لكش الحمام، أو خلف مكاتبهم لكش الذباب، إذ لم يسبق لي أن غامرت مرة بدخول مطعم أو فندق أو منشأة سياحية، إلا وخرجت  منها وأنا أعضّ أصابعي ندماً على ما اقترفت من موبقات، حتى ولو كان طلبي مجرد صحن فول مدمس، فحتى الفول المدمس له تسعيرات سياحية لا تتناسب مع دخل الموظف في بلادنا..!

 قبل سنوات وخلال عطلة الويك إند ــ احتراماً لمثقفي هذا الزمان الأجرب ــ كنت سائحاً في منزلي ــ وحولي عائلتي الصغيرة، وكان صغيري ابن التسع سنوات “يسوح” كعادته بجهاز التحكم الخاص بالتلفزيون على بعض القنوات الاستعراضية التي طاش حجرها واختارت الترفيه عن متابعيها الاكارم ببرنامج يعرض أحدث أنواع السيارات في العالم ويشجع الناس على شرائها، فتحجرت عيناه الصغيرتان عند سيارة الا أذكر إن كانت شبحاً كالذي يركبه أبناء المسؤولين (النزيهين جدا) في بلادنا أو مركبة فضائية كالتي يقتنيها تجارنا الرحماء جدا وطيبو القلب جدا ــ بعيد عنكم ــ وقال بصوت يحرق القلب: بابا اشترِ لنا هذه..! ظناً منه أن والده هو أوناسيس هذا الزمان، فنظرت إليه بإعجاب شديد وقلت في نفسي لقد عرف المحروس كيف يختار الأغلى والأجمل ــ صاحب ذوق ــ والاهم كيف يضعني على المحك، وأنا العاجز عن إصلاح حنفية معطلة في المنزل، فمن أين لي اقتناء سيارة يحلم أمثالي من ذوي الدخل المهدود بأخذ صورة سيلفي بجانبها، فكيف يفكر باقتنائها، ثم نظرت إلى زوجتي التي كانت “سائحة” في كتاب تقرؤه، واستفسرت منها إن كان لها قرابة بباريس هيلتون وريثة اكبر أحد الأثرياء الكبار في أميركا، أو ربما تنحدر من سلالة ماري انطوانيت زوجة الملك الفرنسي التي أبلغها أحد حاشيتها بأن الشعب يحتج بسبب الجوع ونقص الخبز، فأشارت إليه بأن يأكلوا الكاتو..إذ لا بد أن في جينات هذا العفريت الصغير ما يدعو للقلق..!

لا أعلم كيف خطرت ببالي كل من ماري أنطوانيت وباريس هيلتون في تلك اللحظة، ربما لأنهما لم تركضا خلف الخبز كما يفعل محسوبكم كل يوم تقريباً، ولكي أتخلص من نق الصغير وإلحاحه على السيارة، قلت له: يابني هذه السيارة أصبحت قديمة جداً، ولم يعد المسؤولون في بلدنا يقتنونها بسبب مصروفها الكبير من البنزين إضافة إلى أنها تلوث البيئة، كما أنها تتسبب بأزمة سير أثناء مرورها في شوارعنا الضيقة بسبب المواكب المرافقة لها، فهل تقبل بسيارة بهذه المواصفات السيئة، فقال الصغير ببراءة شديدة..لا لا يا أبي، فقلت في سري: الحمد لله لقد اقتنع،  إذ ليس هناك أحب على قلب الوالدين من الابن القنوع…

بالامس ذكرني ولدي الذي أصبح شابا بوعد قد قطعته له قبل سنوات بمرافقته إلى أحد المطاعم الفخمة لتناول طبق من البيتزا الفاخرة، فارتفعت حرارتي فجأة وبدأت أكحّ كحّة غريبة جافة واعترتني بحّة شديدة غيبت صوتي بالكامل.. فنظر إليّ أفراد الأسرة باستغراب وقلق..ثم قالوا عليك أن تجري اختبار كورونا فلعلها بعض اعراضها المشهورة.. فقلت في نفسي: ألف اختبار كورونا ولا يقولن أحد أنني مفلس أو عاجز أو بخيل.. وبينما كنت أستجمع مضار البيتزا وربطها بإيطاليا الموبوءة فجأة هبط الحل السحري من التلفزيون، حيث تم الإعلان عن إغلاق كافة المطاعم إلى أجل غير مسمى بسبب فيروس كورونا الذي يجتاح العالم هذه الأيام..فارتفع صوتي فجأة وعاد إلى قوته المعهودة وصرخت بالصغير: ألف سندويشة زعتر يخدموا عيونك …وانشالله “عمرو ما حدا يورت”..!!