اشكالية في الفهم وتطبيق غير سليم .. وقوانين تحتاج إلى تعديل
د. عربش: الانتقال من الحلول الاسعافية إلى تحقيق التنمية الشاملة
علي كنعان: سورية تمتلك طاقات هائلة لو استثمرت لأصبحت جنة الدنيا
السلطة الرابعة – سوسن خليفة:
اقتصاديات التنمية المحلية موضوع اشكالي بسبب الفهم المختلف والتطبيق غير السليم. طرحته جمعية العلوم الاقتصادية في ندوة الثلاثاء في الثامن من هذا الشهر وذلك في المركز في أبو رمانة للدكتور زياد عربش الذي بدأ محاضرته في القول: في كل مرة أشعر كأنها أول محاضرة لي. وكعادتي ستكون صراحتي أكثر من العادة.
وبدأ حديثه عن المحددات والغايات حيث أوضح أن السياق الكلي تشوبه تعقيدات الحرب والتوازنات الهشة. مشيراً إلى أن سمات عالم اليوم تعدد الفاعلين والفواعل… وانتفاء السببية الواحدة !؟
وتناول المحاضر المسألة التنموية في سورية من حيث التحول التكنولوجي والمؤسساتي ، إلى جانب تحديات ما بعد الحرب وإقلاع النشاط الاقتصادي. لافتاً إلى أهمية سرعة الاستجابة للتكنولوجيا في ظل الانفجار المعرفي والثورة المعرفية. وتطرق إلى التغيرات البنيوية الجيو-اقتصادية والتي هي بمثابة معركة كسر العظم بين روسيا الاتحادية ودول الناتو، وبتموضع مبادرة الحزام والطريق باتجاه دول المنطقة ككل (رؤية الصين الابتكارية): صينية المحتوى وعالمية الطابع، المشروع الأورو أسيوي، فضاء البحور الخمس، رؤية السعودية: المسار والمآلات، التموضع التركي…. مع تغيّر مكانة دول البريكس ودول شرق آسيا وفرص الإنضمام (بما فيها ايران والسعودية وسورية وحتى بصفة مراقب)، ومكانة دول الخليج والمتوسط المستقبلية في الفضاء الاقتصادي الأوسع والمعُولم، بعلاقاته مع الفضاءات الأخرى في العالم.
كما أشار إلى مكانة الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والفاعلين الإقليمين غير العرب، وتأجيج التناقضات، ودور “دول الوكالة” ، وأهمية عصر الذكاء الصنعي والتحول الرقمي.
وعلى صعيد أمن الطاقة بامداداتها وعبورها واستهلاكها ومكانة الطاقات الجديدة والمتجددة: تساءل المحاضر بالقول: من سيدفع ثمن التحول التكنولوجي والتقني لتأمين مصادر الامداد وكلف العبور، ومواجهة مسائل التغيرات المناخية؟
وانتقل المحاضر للحديث عن دراماتيكية مفاعيل الحرب على سورية إلى ديناميكية إعادة البناء كنموذج تنموي مبيناً تعرض قطاعات البنية التحتية لسلسلة من الآثار والمفاعيل، تآكل معها (ولو جزئياً) دورها المكتسب كتراكيب إنتاجية وخدمية توّفر سلعاً وخدماتِ أساسية كانت متاحة قبل بداية الحرب على سورية. لكن ابتكر المجتمع في مناحي عديدة الحلول مع اكتساب مهارات العمل في ظروف صعبة للغاية، بالتوازي مع اتخاذ إجراءات التيسير والتسير لكن الاستدامة تبقى مرهونة بتجاوز العديد من “أعناق الزجاجة” لإعادة تأهيل كافة المنظومات ، والانتقال من الحلول الإسعافية إلى تعزيز الاستدامة بشقيها الاقتصادي (الانتاجي والخدمي ، والاجتماعي ) حيث تلعب البنية التحتية دوراً حاسماً كرافعة لاستقطاب النمو والتشغيل والتآزر، وبالتالي بلوغ غايات الرؤية الوطنية وتعزيز التنمية بزواياها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وبأبعادها الجغرافية، والقطاعية، والزمنية كصيرورة انتقالية من التعافي إلى الاستدامة.
واستعرض المحاضر أهم التحديات التي تواجه التنمية ومنعكساتها الاقتصادية الاجتماعية من استمرار تعّقد سياق الاقتصاد السوري بعد كارثة الزلزال، مع مكونات جديدة من “الحرب الناعمة” . مشيراً إلى انحدار المستوى المعيشي وتأكل المكتسبات الاجتماعية ، مع ضرورة معالجة مسألتي الديون الخارجية والداخلية وضرورة اصلاح منظومات حوكمة النشاط الاقتصادي وبلوغ الاستدامة. ومن التحديات أيضا مواجهة التغيرات المناخية بضمان حقوق سورية، وثلاثية الفقر والبطالة والأمية بنتائجها الاقتصادية والاجتماعية، وتفاقم مشكلة الهجرة وضيق الأفق، هل تتم دراسة أثر أي قرار، حيث لم يعد مبرراً تنفيذ إجراء ما، دون أية أداة للقياس والمراجعة. لافتاً إلى ضرورة إعادة النظر بسياسة المسار الوظيفي، خاصة مع تناقص عدد الكوادر المؤهلة في الصف الأول من الإدارات العامة. والاخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي والاقتصادي لأي قرار . وأوضح عربش أن المغالاة في فرض ضرائب تزيد من مستوى التحصيل تعني تآكل المطرح الضريبي.
وفيما يخص الدعم تطرق المحاضر إلى غياب المبادرة وعدم الوضوح بالنهج الحكومي، فلا أحد يعرف إلى أين يسير الدعم، أو متى يتم رفع القدرة الشرائية أو كيفية السيطرة على تدهور الليرة السورية، ناهيك عن البطء الشديد في المعالجات، حيث وبعد اكثر من سنة من كارثة الزلزال لم تتضح بعد المخططات التنظيمية، للبدء بالمعالجات المستدامة. ورأى المحاضر ضرورة مواجهة تنامي ظاهرة هجرة الشباب واليد العاملة خارج البلاد، ودرء نزيف الكوادر المؤهلة. والارتقاء بالتعليم والتأهيل الرفيع والنوعي والولوج في اقتصاديات المعرفة والتحول الرقمي. وضرورة اتخاذ اجراءات استعادة الثقة وبشكل تراكمي وليس تمرير مرحلة.
وأكد عربش على أهمية التفعيل الجدي لعمل المجتمع الأهلي وبشفافية . لافتاً إلى ضرورة اعادة النظر بالسياسات الحكومية، دور الدولة، القطاع العام، السياسات الضريبة والنقدية، دور قطاع الاعمال، دور الاحزاب، دور المجتمع الاهلي.
وفيما يتعلق في أولويات المرحلة القادمة يرى عربش أن إعادة التأهيل البنيوي وتكامل منظومات البنية التحتية سيمثل تحدياً جوهرياً نظراً للدور الذي سيلعبه في التخفيف من مفاعيل الحرب المتراكمة خلال السنوات الثمان المنصرمة. وإن مكانة الطاقة ستتجاوز منحى التحليل الاقتصادي التقليدي وستواجه عوائق متزامنة: من التمويل والولوج إلى التقانة، وحقوق الملكيات وتطوير الحوكمة الناظمة إلى حل إشكالية التسعير الإداري، والاستغلال الأمثل للموارد وولوج جميع شرائح المجتمع إلى السلع والخدمات ، والتي تمثل بمجملها تحديات، تتباين أهميتها وكيفية معالجتها بحسب المناطق والقطاعات، وداخل القطاع نفسه، مع أهمية الاستجابة العاجلة وتغليب معايير الدمج المجتمعي على الربحية، بالتزامن مع النهوض بالتراكيب المساندة للإنتاج.
وبالتالي، فإن المرحلة القادمة تتطلب موائمة عدة أولويات عابرة فيما بينها وفي آن معاً نذكر منها الاستجابة المحلية والإسراع في تلبية الاحتياجات العاجلة مع التشديد على المحركات الذاتية، وذلك بغرض الانتقال من الحلول الإسعافية والآنية إلى ركائز الاستدامة وبلوغ غايات التنمية الشاملة. وأيضاً عدم الركون إلى التوازن الهش كون الطلب سيرتفع مع عودة المهجرين والنازحين والإقلاع الاقتصادي، مقارنةً بأهمية زيادة العرض جوهرياً، وأهمية توسيع التغطية وتقديم الخدمات بشكل متنامي وبالكفاءة والجودة المطلوبة. وتبرز هنا أهمية معالجة ثلاث فجوات متزامنة: اختلالات ما قبل الأزمة، مواجهة مفاعيل الحرب ومتطلبات الانتعاش. وولوج جميع شرائح المجتمع إلى خدمات البنية التحتية كانتفاع وكشكل من أشكال إعادة توزيع الثروة، خاصةً وأن مفرزات الحرب تفرض التطوير المؤسساتي.
وانطلاقاً من محورية دور الدولة بمؤازرة قوى المجتمع وتراكيبه نرى ضرورة تعزيز مفهوم التنمية التشاركية والتدرج والتتابع الديناميكي والمرونة العالية لتحقيق أهداف إعادة هندسة كافة منظومات قطاع الطاقة. ولا بد من الترابط ما بين السياسات الكلية والجزئية على كافة الأصعدة، وتدعيم المواطنة ولكل الأجيال ولكل الفئات، كونه لا يمكن النظر إلى البنية التحتية المادية والاجتماعية إلا من منظور التنمية وفي اطار شامل يضمن تحصيل الحقوق وتأدية الواجبات .
وأكد عربش أهمية إعطاء البعد المكاني للتنمية والتخطيط الإقليمي في إعادة تأهيل البنيات التحتية وذلك بمشاركة الوحدات المحلية والبلديات والهياكل المجتمعية والمجتمع الأهلي (القانون 107/2011)، خاصةً لمعالجة الاختلالات التنموية السابقة وتلك التي برزت مع الحرب،. إضافة إلى ترميم رأس المال الاجتماعي وتوسيع نطاقه وقنوات التمويل وبناء القدرات لإنشاء وادارة البنيات التحتية والانتفاع من شراكة المجتمع المحلي والوحدات الإدارية . لافتاً إلى أهمية مزاوجة الحلول الإسعافية مع محاور العمل الاستراتيجية على المدى الطويل .
وفيما يخص اقتصاديات المكان والتنمية المحلية يؤكد عربش أنه لم يعد هناك متسعاً من الوقت لوضع جدي لرؤية اقتصادية اجتماعية بعيدةً عن التجريب او التمترس خلف العوامل الخارجية رغم أهميتها، أو السياسة الجبائية والتقييدية وزيادة التهميش الاجتماعي. فليس كل مواطن لديه امكانية الايفاء بالحد الادنى من متطلبات المعيشة من خلال دخله، أو ما يؤازَر به من أقاربه في المغتربات، محدداً اقطاب التنمية بالمحاور التنموية بدل الطرق الموازية والمناطق الاقتصادية الخاصة، و الصناعية والتصنيع الزراعي، و المدن الاعلامية، مع ملاحظة أهمية التشبيك بين هذه القطاعات لخفض أكلاف الطاقة والفوز المشترك!
ويرى عربش أن الأبعاد الثلاثية، من الكثافة والمسافة والتقسيم، عوامل مهمة للتنمية الاقتصادية الإقليمية ومدمجة في إطار تحليلي “ثلاثي الأبعاد” (تقرير التنمية العالمية للبنك الدولي، 2009)، فالاقتصادات المكانية تركز على مصطلح “الفضاء الجغرافي” الذي يفسر التحول في الجغرافيا الاقتصادية، وارتباط الاقتصادات المكانية بالأبعاد الثلاثية.
وشدد عربش على مكانة الإدارة المحلية في النهوض المجتمعي في الداخل، كحاجة داخلية وكتحصين لمحاولات الخارج بتقليب المجتمع. وأهمية دور المجالس المحلية واللامركزية ، والمبادرات الأهلية ودور هيئة التخطيط الاقليمي وما نفذته فعلياً .
وركز عربش على أهمية ومكانة سورية في فضاء الإقليم: “سورية نهاية العمق البحري وبداية عمق آسيا” مع التأكيد بأن تحقيق نجاحات تنموية يتطلب التشبيك والتنسيق مع دول المنطقة لاستغلال موارد وإمكانيات هذه المنطقة لصالح ولخدمة شعوب المنطقة. فانطلاقاً من موقعها كإحدى أهم ممرات عبور البترول ستكتسب سورية أهمية بالغة في تأمين الإمدادات لتلبية الطلب العالمي المتنامي خاصةً مع نضوب النفط والغاز في مناطق الإنتاج الأخرى وبقائهما سلعتين استراتيجيتين بامتياز على الأقل للأجل 2040.
والمطلوب لتحقيق التنمية ضمن مسارها الصحيح لا بد من توزيع جديد للسكان قبل ايصال الخدمات، كون المسألة لم تعد كما في السابق ندرة الموارد أو حسن ادارتها بل توطين الناس بحسب توضع الموارد وأهمية خلق فرص العمل، مع وقف نزيف الاقتصاد المحلي وارتباط مناطق عديدة في سورية بالتجارة غير الشرعية مع مناطق حدودية، ووقف تزايد الهدر والفواقد وتآكل المكتسبات السابقة، وذلك بقلب معادلة المنافسة لتصبح كل منطقة سورية نداً مستفيداً من التبادل التجاري السائد.
أدار الندوة الأستاذ فؤاد اللحام أمين سر جمعية العلوم الاقتصادية. مشيراً إلى أن الموضوع مهم واشكالي بآن واحد. وقد يكون أحد أسباب الأزمة أو التعافي منها.
مشيراً إلى أن الدكتور عربش خبير اقتصادي متعدد الاختصاصات، ومشاغب بامتياز. وقال معقباً على المحاضرة كما تعودنا من د. عربش أفكار مستفزة ومحرضة ومشجعة للنقاش.
المداخلات
أ. خالد شمس الدين: التنمية المحلية هل تحتاج إلى إطار قانوني لتنظيم العمل؟
أ. سوسن زكزك: أشارت إلى ضرورة تعديل قانون الجمعيات المعمول به ليتناسب مع الطرح القائم.
أ. هيام علي: أغلب المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر التي نفذت في بعض المناطق من سورية توقفت بسبب مشكلة النقل الناتجة عن حوامل الطاقة. وما رافقها من أزمة في التسويق وهجرة للشباب بدل الاستقرار.
د. علي كنعان: أكد أن التنمية المحلية من مفرزات الفكر الرأسمالي وليست اشتراكية. قائلاً نؤمن في المركزية التي تعني تمركز الريع بينما اللامركزية تعني انتشار الريع. وفيما يتعلق بالقوانين أشار إلى أن أغلب القوانين صدرت عام 1949 ولم يجرؤ أي وزير أن يعدل هذا القانون أو ذاك. مثال على ذلك قانون الضرائب. والسؤال هل تصلح هذه القوانين لتطبيق التنمية المحلية؟. وسورية تمتلك طاقات هائلة لو استثمرت لأصبحت جنة الدنيا.
أ. محمد حلاق نحن نفتش عن الحلول المتجزأة وأنا أومن بأنه توجد حلول متكاملة لدينا الامكانيات والقدرة علينا اختيار أشخاص لهم انتماء قوي.
بدوره د. عربش أوجز إجاباته بالقول: الاطار القانوني ضروري لنجاح التنمية المحلية وأعطى مثالاً على ذلك بأن نظام الأمبيرات ممنوع قانوناً ولكن واقع الحال فرضه.