جديد 4E

رواية “المنكوح”: حين يورِّط الكاتب قارئه بجماليات القبح

 

يحيى زيدو :

قد تكون رواية الأديبة اللبنانية “نسرين النقوزي” واحدة من الروايات التي لا تُقرأ من عنوانها. للوهلة الأولى يبدو العنوان صادماً لأنه قد يحيل إلى نص إيروتيكي أو جنسي فاضح (بورنو) لكن الحقيقة أن هذا العنوان ليس سوى عتبة يجتازها القارئ إلى نص ليس فيه شيء من الجنس أو الإيروتيكا، بل نص غارق في جماليات القبح لشخصيات مهمَّشة، مستبعدة، عبثية، مقموعة ومتشظية الهوية ضمن شبكة علاقات سلطوية/ ثقافية واجتماعية وسياسية، حولت أولئك الأفراد إلى شخصيات سيكوباتية يمتلئ بها المجتمع الذي بدا وكأنه مصحة نفسية كل من فيه يحتاج للعلاج.

الروائية اللبنانية نسرين النقوزي

شخصيتان رئيسيتان هما بطلا الرواية، الأولى شخصية حسان السوري، أستاذ اللغة العربية الذي وجد نفسه يؤدي الخدمة العسكرية ويقاتل من أسماهم “إرهابيين” لا يعرفهم ولم يرَهم من قبل. والشخصية الأخرى هي شخصية مجيد الجزائري الأمازيغي المستلب الهوية، الذي يعيش مع كلبه وقططه ودجاجاته، ويتحدث معها، و يتعامل كأنها شخصيات إنسانية، يضاف إليها مجموعة من الأشخاص السيكوباتيين الذين يسميهم أصدقاء يشاركونه الحشيش والشراب وبعض ما يتوفر من الطعام.

يتعارف حسان ومجيد عبر “الماسنجر”، و تنشأ بينهما علاقة حميمة يتبادلان خلالها الرسائل، والأخبار، والذكريات، والأحلام، والأوهام، و لحظات الألم والخوف، بلغة بسيطة ضمن بنية سردية خفيفة في الشكل، عميقة في المضمون، وممتعة لا تخلو من الفانتازيا والصور السحرية التي تخلط الواقع بالخيال،  بل تحوِّل الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال، مع طغيان نسبي لشخصية مجيد التي يتخفى خلفها حسان، وربما تأثر بها وتماهى معها، وهو ما تعكسه حالة الإثارة التي حصلت معه عندما كان مجيد يحدثه عن لقائه بحبيبته.

مجيد الذي أدمن الاستمناء بسبب الكبت والحرمان، تحوَّل الأمر عنده إلى نوع من التمرد أو الكيدية التي يواجه بها سلطة أبيه، حيث يجلس إلى الطعام دون أن يغتسل، أو يقوم بممارستها عند الآذان في تحدٍّ ضمني للسلطة الدينية والمجتمعية أو تمرد عليها.

يمكن النظر لرواية “المنكوح” ضمن موجة روايات ما بعد الحداثة، فقد نجحت الكاتبة في استخدام تقنيات الرسائل القصيرة، وجاءت الجمل مكثفة، رشيقة، دالة، مع اقتصاد شديد في الكلمات، تخلو من الحشو والتقدير، لكنها جمل واقعية لا تخلو من الشاعرية حين يتطلب الأمر ذلك، كما في حديث مجيد:

” خرجتُ كي أتمشّى في الشارع بعد عزلةٍ دامت طويلًا، الشوارع مزدحمةٌ، سيمفونيّة (بحيرة البجع) تصدح من مكبّرات الصوت في كلّ الأزقّة. صوت الآذان يسمع من بعيدٍ.. أجراس الكنائس تدقّ بسرعةٍ وانتظامٍ بصوتٍ عالٍ جدًّا…

بدأ المطر ينهمر عليّ… الرعد يزمجر ويلمع في السماء. رفعت رأسي فرأيت شهابًا على شكل امرأةٍ جميلةٍ.. تشبه حبيبتي. سمعتها تئنّ مع لحن السيمفونيّة. أصبح النغم حزينًا جدًّا. واستحال المطر سيولًا.

ركضتُ من الخوف، نظرتُ ورائي فإذ بملايين النساء يلحقن بي.. نساءٌ لهنّ نفس الوجه وشكل الجسد: شقراواتٌ كحيلات العيون صغيرات الأنوف مثلّثات الأفكاك بلا تجاعيد.

ضحكن عندما رأين الخوف في عينيّ، فبدت أسنانهنّ متراصّةً كحبّات اللؤلؤ… لا عيب فيهنّ… فما بالي أرتجف من الخوف… أحسّان؟

تعرّين بلمح البصر، لا عضو تناسليًّا لأيٍّ منهنّ… من خلق هذه المخلوقات ممنوعاتٍ من الإنجاب؟ ولماذا تنظر إليّ الأنثى الوحيدة من فوق بين ظلال الشهاب…

أغمي عليّ.. توقّف المطر… سكتت الموسيقى.. صعدت روحي لمصافحة امرأة الشهاب… اقتربَت مني، أخَذتني من يدي وحملتني معها.

لم أكن أعلم إلى أين أنا ذاهبٌ مع خليلتي… لا يهمّ المكان، تبًّا لها…

أخَذتني إلى محلٍّ لبَيْع الهدايا..

العُشّاق في الخارِج يلبسون الأحمر ويحملون الهدايا…

اختارَتْ علبةً صغيرةً عن الرفّ. وقالت لي: ادفع ثمنها…. أشَرْتُ إلى البائِع أن يُعطيني ما طلَبَت، فإذا بها علبة سجائر فيها سيجارتان فقط، واحدةٌ لي وأخرى لها…

كلّ هذا في كشك صغيرٍ…. نقطةٍ لالتقاء العَوالِم.”

وأحيانا تنقلنا الكاتبة إلى مساحات نتلمَّس فيها الجمال وسط الخوف والألم والمعاناة كما في كلام حسان:

“أنا وحدي ورائحة الموت تفوحُ بدل رائحة البارود والحرائق. الجثث تحت الأبنية المدمّرة باتت طعامًا لبعض الثعالب والكلاب، وحتّى بعض الهررة الّتي توحّشت من أكل اللحم البشريّ.

فمنذُ ثلاثة أيامٍ وأنا وحيدٌ آكل البيضَ المسلوق، أعبّئ ماء الشرب من القبو ثمّ أعود مجدّدًا إلى الطابق الّذي أسكنه.

أذهبُ الى مكانٍ بعيدٍ أحفرُ حفرةً في التراب وأجلس القرفصاء لأتغوّط وأنا أنظر حولي خوفًا من تسلّل عقربٍ أو زحف بعض الأفاعي أو من أن يهاجمني كلبٌ مسعورٌ.

لا شبكة إنترنت أو وسيلةَ اتّصالٍ إلّا إن وقفتُ على حافة الحائط في سطح المبنى. عندها فقط أستطيع أن أتوفّق بشبكةٍ وأتلقّى رسائلي. أقرؤها على عجلٍ وأنزل كي لا أقع…. أصوّر المحادثات المهمة كي أتفرّج عليها ليلًا وتؤنسني… هاهاها المحادثات… ليس هناك إلّا رسائل من مجيدٍ، هو وحده من يكلّمني ويشتاق إليّ.. ويعُدُّ أيّام غيابي.”

كأن ثنائية جميل/قبيح في الرواية تترجم ثنائياتٍ واقعية:  الثقافي/السياسي، السلطوي/المجتمعي، الأنا/الآخر الذي يفضي إلى سؤال الهوية من أنا؟!.

تعاني شخصيات الرواية من الاغتراب، والتهميش، والقهر، وغياب العدالة الاجتماعية وهي تبحث عن هوية تستقر بداخلها في زمنٍ سائلٍ متصل.

الزمن في الرواية ربما يكون البطل الثالث فيها إلى جانب حسان ومجيد، فهو حيناً زمن نكوصي يعود إلى الذاكرة، و حيناً يبدو زمناً حاضراً في المعاناة والقهر في الواقع ، وأحيانا هو زمن مستقبلي خارج المكان، حيث الحلم والتهويمات والخيالات التي تريد قتل الواقع لبناء واقع أكثر جمالاً.

ثمة ما يلفت في الرواية قدرة الكاتبة على الحديث عن مشاعر وحميميات الرجل بمصداقية قلَّ أن نجدها في الكتابات النسوية العربية التي هي في معظمها ناتج التدجين الذكوري للنص الأدبي، وربما في هذه الرواية نجد تجاوزاً خلاقا لهذا التدجين.

لكن ما يلفت النظر أكثر هو غياب المرأة في الرواية، فهي إذ تحضر فإنها تحضر بضمير الغائب، إذ لولا حديث مجيد عن حبيبته، وعن بعض الفتيات الريفيات لما كان هناك أي حضور للشخصية النسائية.

وفي مقابل غياب المرأة تحضر حيوانات مجيد التي تتكلم، و كأننا هنا نستعيد بعض أجواء كليلة ودمنة في الأدب التقليدي، أو  شخصيات “والت ديزني” في عالم ما بعد الحداثة.

كلب مجيد الذي يلتبَّس بصاحبه، كما تلبَّس صاحبه به، هو الذي يفدي مجيد، ويقدَّم للإعدام بدلاً منه:

“اقتادوني إلى ساحة القرية، ربطوا قوائمي الأربع على صليب زجاجي في الوسط. بدأ أهالي القرية، رجال النار، أم مجيد، الذئاب الخراف يرجمونني بكل أنواع الحجارة وأشكالها.

رموا على عيني وفمي التراب، لم أبكِ، فالكلاب لا تبكي، و البؤساء لا يموتون مرتين.

و أنا امتداد لكل منكوحي العالم”.

هكذا تختم الكاتبة روايتها، وكأن الرواية موجهة للقارئ العادي، الذي ما أن يبدأ بقراءة النص حتى يبدأ باكتشاف امتداده ووضعه بين البائسين في هذا العالم، وربما هنا دعوة إلى تشكل وعيٍ ما، يفضي إلى السؤال عما يجب أن يفعل.