وجوب تلازم الحلول مع تحسين إدارة الموارد البشرية في القطاع العام الإداري والاقتصادي
اعتماد الكفاءة لا الولاء في التوظيف والترفيع .. ووقف التدخل الخارجي فيهما
إخراج الموظفين الوهميين من قائمة الرواتب والأجور .. ووقف نقل العمال المؤقتين إلى عمال دائمين خاصة في القطاع الإنشائي
زياد غصن :
“العمالة الفائضة” في مؤسسات الدولة والقطاع العام هي إحدى القضايا الأساسية، التي لم يكن قبل فترة الحرب يختلف اثنان على ضرورة معالجتها بما ينعكس إيجابياً على إنتاجية تلك المؤسسات، ومن دون التسبب بأي تأثيرات سلبية على الوضع المعيشي للعاملين المصنفين ضمن فئة “العمالة الفائضة”، لكن، ورغم الكثير من المقترحات التي قدمت، إلا أن الحكومات المتعاقبة فضلت تجاهل المشكلة ودفعها للأمام.
اليوم تعاود هذه المشكلة حضورها للنقاش مع زيادة خسائر مؤسسات القطاع العام، ارتفاع كتلة الرواتب والأجور من دون أن ينعكس ذلك على تحسن الوضع المعيشي للعاملين، ارتفاع تكاليف الإنتاج، والاضطرار تحت ضغط الظروف الاقتصادية إلى البحث في سبل إصلاح مؤسسات القطاع العام، وتالياً فإن ملف “العمالة الفائضة” يشكل أحد الملفات التي لا يمكن تجاهلها.
يُعرّف الباحث والاستشاري المعروف الدكتور نبيل سكر مصطلح “العمالة الفائضة” بأنه يشير إلى “العمالة الزائدة عن حاجة المؤسسة الخدمية أو الإنتاجية الحقيقية، سواء كانت في القطاع العام الإداري أو القطاع العام الاقتصادي”، ويلخص في حديثه لـ”أثر برس” الأسباب الحقيقية لنشوء هذه الظاهرة واستمراريتها إلى اليوم بعدة نقاط أهمها: أولاً سياسة التوظيف الاجتماعي خلال الحقبة الاشتراكية ومعها سياسة ضمان الوظيفة في القطاع العام، وثانياً تحجيم دور القطاع الخاص خلال تلك الحقبة، وبالتالي تقليص دوره في استيعاب العمالة، وثالثاً قرارات توظيف الخريجين الإلزامي الصادرة سنوياً عن رئاسة مجلس الوزراء، وتتبيّن ظاهرة العمالة الفائضة أكثر ما تتبيّن في القطاع العام الصناعي والإنشائي كما في مؤسسات الدولة الإدارية، وعلى المستويات الوظيفية كافة، لكن هذه الظاهرة قد تكون تقلصت خلال الأزمة بسبب النزوح الخارجي والداخلي، وقد يكون هناك عمالة ناقصة في بعض المؤسسات في الوقت الحاضر”.
ولعل السؤال الأهم، والذي من الطبيعي طرحه مع بداية أي نقاش حول هذه الظاهرة، يتمثل في النسبة التي تشكلها العمالة الفائضة من إجمالي عدد العمالة في مؤسسات القطاع العام وشركاته. لكن إلى الآن ليست هناك خريطة توضح حجم هذه العمالة وتوزعها على مؤسسات الدولة، وحسب ما يرى الدكتور سكر فإنه “من الصعب تحديد حجم هذه الظاهرة لضعف البيانات وصعوبة قياسها بشكل علمي، ولكن يمكن تقدير نسبة هذه العمالة قبل الأزمة بحوالي 30% من العاملين كافة في القطاع العام الاقتصادي، و6% من العاملين كافة في القطاع العام الإداري”.
– صعب في الوقت الراهن:
عند الحديث عن معالجة ظاهرة العمالة الفائضة أو البطالة المقنعة في مؤسسات الدولة يتبادر إلى أذهان الكثيرين فكرة أن الحل سيكون محصوراً بالتسريح التعسفي وتالياً التسبب بفقدان الكثيرين مصادر دخلهم، فيما خيارات المعالجة تبدو متعددة، منها ما هو متعلق بالإجراءات المطلوبة من الحكومة مثل إيقاف ظاهرة التوظيف العشوائية، ومنها ما أفرزته تجارب بعض الدول الناجحة.
وحول النقطة الأخيرة يشير الدكتور سكر إلى تجارب “البرازيل وبولندا والإكوادور، وهي سياسات اعتمدت واحداً أو أكثر من السياسات التالية: منح حوافز التقاعد المبكر والتسريح الطوعي وهما الأسهل، ثم التسريح الإلزامي ثم تدريب الموظفين والعمال الخارجين من الخدمة وإعدادهم للتوظيف في القطاع الخاص أو لإقامة أعمال حرة، فضلاً عن التوجيه المهني والسعي لإيجاد وظائف منتجة لهم، ومنح تعويضات البطالة لفترة محدودة”.
لكن ما كان متاحاً قبل العام 2011 لم يعد كذلك في ضوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: ما الخيارات المتاحة اليوم أمام الحكومة لمعالجة هذه الظاهرة؟
وجهة نظر الدكتور نبيل سكر تذهب إلى أنه “من الصعب في الوقت الحاضر معالجة هذه الظاهرة بشكل جذري، بسبب المعاناة الاجتماعية الحالية، فجميع الحلول تتضمن تقليص العمالة وهذا غير سليم في الوقت الحاضر، ولكن من المفيد أن يعد المكتب المركزي للإحصاء من الآن دراسة معمقة للوضع الحالي للعمالة المنتجة والفائضة والناقصة في القطاع العام، مع أماكن تواجدها جغرافياً وقطاعياً في الأراضي الخاضعة لسلطة الدولة، وإعداد تقديرات لما هو الحال في الأراضي خارج سيطرتها في الوقت الحاضر في الشمال شرق والشمال غرب، واقتراح بدائل حلول لها”، ويتابع قائلاً :”حين نبدأ بمعالجة الظاهرة يجب معالجتها بالتدريج، بدءاً بعدد من المؤسسات وتقدير كلفة كل من البدائل، مع ضرورة وجود دعم سياسي كامل للعملية، ولكن يجب أن تتلازم الحلول مهما كانت مع تحسين إدارة الموارد البشرية في القطاع العام الإداري والاقتصادي، بما فيه اعتماد الكفاءة لا الولاء في التوظيف والترفيع، ووقف التدخل الخارجي فيهما، وإخراج الموظفين الوهميين من قائمة الرواتب والأجور، ووقف نقل العمال المؤقتين إلى عمال دائمين خاصة في القطاع الإنشائي”.
مستقبل الظاهرة:
لا شك أن معالجة ظاهرة بمثل هذا الأثر الاجتماعي ليست سهلة، ولا يمكن أن تتم في وقت قياسي حتى وإن توفرت الظروف والمقومات اللازمة لذلك، الأمر الذي يثير تساؤلاً عن مستقبل هذه الظاهرة في سوريا؟
في إجابته على هذا السؤال الختامي، يرى الدكتور نبيل سكر أن “هناك عاملين سيؤثران على هذه الظاهرة في المستقبل، واحد إيجابي والآخر سلبي، وبالنسبة للعامل الإيجابي فهو العمالة الإنتاجية الهائلة التي ستخلقها عملية إعادة الإعمار في القطاعين الخاص والعام وفي مختلف المستويات الوظيفية.
أما العامل السلبي فهو التوظيف الاجتماعي الذي قد تعتمده الدولة بعد الأزمة لتخفيف المعاناة الاجتماعية ولاستيعاب المحاربين، مما سيخلق عمالة فائضة من جديد بآثارها السلبية أعلاه، إضافة إلى الضغط الذي ستخلقه هذه السياسة على ميزانية الدولة وقدرتها على مواجهة متطلبات إعادة الإعمار المتعددة والضخمة وزيادة حاجتها للاستدانة الداخلية والخارجية، وهذا ما حصل في تونس، حيث انطلق الربيع العربي، رغم عدم تعرضها لحرب داخلية، وتحملها معاناة أقل بكثير مما تحملته سوريا، مما اضطرها اللجوء إلى صندوق النقد الدولي”.
أثر برس – 16 تشرين الثاني 2023م