جديد 4E

إضاءات غير تقليدية على الاقتصاد السوري.. د. خربوطلي في ندوة الثلاثاء يحاول تشخيص التحديات وإعطاء وصفات للتعافي

 

نحتاج سياسات اقتصادية فعالة لإحداث اختراق تنموي يساهم بردم فجوة التراجع الحاد في معدلات النمو

 

 

ثلاثية الفقر والتضخم والبطالة عمقت الاختلالات التي زادتها الأزمة وجعلت الفقر من أعلى المعدلات العالمية

 

 

الفجوة بين الدخل ونفقات المعيشة من أقسى تداعيات الأزمة وأكثرها قوة وحاجة للمعالجة الفورية

الضريبة أداة اقتصادية وليست للجباية .. وتوفير السلع أهم من ضبط أسعارها

 

السلطة الرابعة – سوسن خليفة :

يبدو أن واقع الاقتصاد السوري وتداعيات الأزمة لا يزال يثير حفيظة المحاضرين في جمعية العلوم الاقتصادية، وكان الأمر واضحاً في ندوة الثلاثاء الاقتصادية التي أقيمت يوم 12 أيلول الجاري، في المركز الثقافي في أبي رمانة، ورغم تغير العناوين إلا أن الجوهر واحد.

الدكتور عامر خربوطلي أوضح في بداية محاضرته أنها ستكون هوامش على دفتر الاقتصاد السوري والتي تتضمن 25 محوراً، وجميع هذه المواضيع المطروحة تتحمل وجهات نظر مختلفة، فالاقتصاد ليس هواية كما عبر عنه أحدهم ولا ترفاً، هو تخصص علمي وبالنهاية له قواعده وأدواته للتحليل.

تحدث بداية عن موجز للمحاضرة مشيراً إلى الناتج المحلي الذي لا يتعدى 12 مليار دولار عام 2020، وكان متوقعاً أن يصل إلى 160 مليار دولار قبل الأزمة. ومعنى هذا أنه لا يوجد نمو للناتج المحلي. والنقطة تتعلق هنا بقطاعات الناتج المحلي وتبلغ مساهمة الزراعة والصناعة والتجارة على التوالي: 19-28-28% وهنا نحتاج إلى اعتماد سياسات اقتصادية فعالة لإحداث اختراق تنموي يساهم في ردم فجوة التراجع الحاد في معدلات النمو الاقتصادي، وتلافي الضعف والأضرار اللذين تعرض لهما قطاعا التجارة والصناعة بالإضافة للزراعة والخدمات المكملة. وبالتالي فإن رسم معالم محددة لدور تنموي جديد لهذه القطاعات في مرحلة ما بعد الأزمة تكتسب أهمية خاصة لكونها عصب الاقتصاد السوري أولاً ولكونها المتأثر الأكبر من تداعيات الأزمة عام 2011 ، فقد حدث تراجع حاد في قيم الانتاج الصناعي والتبادل التجاري، وعجز مستمر في الميزان التجاري مع ارتفاع تكاليف النقل والشحن والطاقة مما أدى لارتفاع تكاليف التصنيع والتصدير مع الحصار الاقتصادي والعقوبات وتوقف مشاريع واتفاقيات التجارة الحرة والشراكة مع أوربا إلى جانب عدم القدرة على الترويج الداخلي والخارجي والتراجع الحاد في عمليات الترانزيت والمناطق الحرة، ناهيك عن انتشار الورشات غير النظامية واقتصاد الظل مع صعوبة تجديد الآلات ووسائل الانتاج لشركات القطاع العام وتعثر إعادة اقلاعها.  وأيضاً انتقال سورية لأول مرة إلى بلد مستورد للعديد من المحاصيل الزراعية وحدوث خلل في الأمن الغذائي.

معادلة النمو الجديدة

وأكد المحاضر بأن اتباع سياسات صناعية وزراعية تتلاءم مع النموذج الاقتصادي السوري الجديد يدخل في عمق اهتمامات هذه المحاضرة. التي نوه بأن القاء الضوء على المحاور لا يتم اختيارها حسب الأهمية لكن بحسب التحدي الذي يصادف الاقتصاد السوري.

حيث ركز في محاضرته على تطبيق معادلة النمو الجديدة في سورية المعتمدة على الاستثمار الأمثل لرأسمال، والتركيز على عوامل الريادة والتقانة وكفاءة التشغيل، وأن تكون التشاركية بين القطاعين العام والخاص خيار استراتيجي لاستثمار شركات ومصانع القطاع العام الصناعي، وبأن القطاع الخاص هو الحامل الأساسي ومرتكز التنمية المستقبلية وتحقيق الانتعاش المطلوب، وتحديد السياسات التجارية الداخلية والخارجية إضافة إلى السياسات الصناعية والزراعية الموجهة لتحقيق منتج زراعي يتمتع بالمزايا التنافسية.

ثلاثية الفقر والتضخم والبطالة

رأى المحاضر أن تداعيات الأزمة التي مرّت بها سورية منذ عام 2011 أظهرت ما كان يتفاعل (تحت الرماد) ليطفو على سطح الاقتصاد السوري بصورة جلية وواضحة.

وأوضحت هذه (الثلاثية) عمق الاختلالات التي زادتها الأزمة وجعلت الفقر من أعلى المعدلات العالمية حسب التعريفات الدولية نتيجة تراجع القيمة الشرائية للعملة المحلية والتحول الكبير في تراتبية الطبقات التي خفضت الطبقة الوسطى إلى ما يقارب 15-20% بعدما كانت قبل الأزمة ما يقارب 75% على حساب تزايد خط الفقر وتمركز الكتلة النقدية في نسبة قليلة من الطبقة الغنية.

ومن المعروف أن الطبقة المتوسطة التي غالباً ما تمتلك فائضاً ادخارياً عن الاستهلاك أدى تقلصها إلى تراجع الإنفاق الكلي وتراجع الطلب الفعّال إلى مستويات كبيرة باستثناء المواد الأساسية الضرورية مما أسهم في تراجع الاستثمار وإنتاج السلع والخدمات غير الأساسية بشكل واضح وحدوث أزمة ركود وتراجع في المبيعات في أغلب السلع غير الأساسية بالإضافة للكمالية كما أدت هذه الحالة لتزايد الاقتصاد الهامشي (واقتصاد الظل) لتصل إلى ما يقارب 45% من القطاع الخاص.

أما من ناحية التضخم فقد فاق المعدلات العالمية وظهور حالات الاكتناز والمضاربة غير المنتجة.

وفيما يتعلق بالبطالة فإن تراجع الاستثمارات الانتاجية والخدمية أدى لعدم قدرة الاقتصاد السوري على استيعاب طالبي العمل وخلل بين مخرجات التعليم والمهن ومتطلبات سوق العمل.

ويرى د. خربوطلي أن التخفيف من حدة وآثار هذه الثلاثية يتطلب تخفيض الضرائب لزيادة الانفاق الاستهلاكي، والضريبة يجب أن تكون أداة اقتصادية وليست للجباية. والبدء بمشاريع البنية التحتية التي تستقبل الجزء الأكبر من العمالة، والتوجه نحو المشروعات المستقطبة لاكتنازات الأفراد وتوجيهها نحو العرض الكلي وعدم بقائها مجمدة.

ولفت خربوطلي النظر إلى وجود متناقضين فيما يتعلق بحالات الركود التضخمي وهما ( ركود مع التضخم ) فهذه الحالة قابلة للمعالجة والتصحيح حسب وجهة نظر المحاضر عبر ضبط الانفاق العام وتقليص التمويل بالعجز، وتنشيط المشروعات الصغيرة سريعة المردود لخلق منتجات ودخول جديدة.

أما تحقيق توازن الدخل القومي فيتم بتعادل الطلب الكلي مع العرض الكلي أو الادخار مع الاستثمار.

فجوة الدخل والنفقات من أقسى التداعيات

وفيما يتعلق بالواردات وفي الحالة السورية نجد تراجعاً في الصادرات، وتزايداً في المستوردات0 ولم يؤد الانفاق الحكومي لتغطية تراجع الاستثمار، وزيادة عبء الضرائب، وتراجع الجزء المتبقي من الدخل وتراجع الادخارات ويتطلب هذا تحفيز الاستثمار الخاص وتخفيض العبء الضريبي  وزيادة الانفاق الاستهلاكي والحصيلة الادخارية مع تنشيط التصدير واعتبر المحاضر بأن فجوة الدخل ونفقات المعيشة من أقسى تداعيات الأزمة وأكثرها قوة وحاجة للمعالجة الفورية باعتبار أن الدخل المتبقي لم يعد قادراً على تلبية نفقات المعيشة.

غياب الصندوق السيادي

وتحدث خربطلي عن القانون رقم 8 القاضي بإنشاء مصارف التمويل الصغير والمتوقع أن يصدر عنه عدد من مصارف التمويل لكن عانى هذا القطاع من تحديات أدت إلى فشل العديد من المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر وهي بحاجة إلى وضع استراتيجية وطنية ومشاريع داعمة. ولفت إلى أهمية الصناديق الاستثمارية التي أحدثت ولم تفعل حتى الآن وهي مهمة لاستقطاب الفوائض، وطالب بتفعيل سوق الأوراق المالية لاستقطاب المدخرات وهذا العمل لم ينجح واتجهت الأموال للمضاربة في العقارات وشراء الذهب. والمقترح وجود صندوق سيادي تم اقتراحه سابقاً من قبل المرحوم د. محمد العمادي ليكون رافعاً لهذه السوق ومشترياً للأسهم.

دور السياسات المالية والنقدية

وأفرد المحاضر محوراً للحديث عن قطاع الخدمات لافتاً أن النظرة في سورية لهذا القطاع بأنه غير انتاجي رغم أنه المكون الأساسي لأكثر الصناعات في العالم.

وتطرق المحاضر إلى أزمة السياسة المالية والنقدية والناجمة عن تراجع الاحتياطي من القطع الأجنبي نتيجة الأزمة وتراجع موارد الدولة من القطع الأجنبي والمحاصيل الاستراتيجية وعجز الميزان التجاري . والمطلوب أن تساهم السياسة النقدية في سورية في تحقيق نمو اقتصادي أفضل وتضخم اقل وتشغيل أعلى وأسعار صرف متوازنة وتوازن في الميزان التجاري واحتياطي الذهب والقطع الأجنبي، وجميع هذه الأهداف تعني زيادة في دخل الفرد ومناخ أفضل للعمل والاستثمار. وتعد أسعار الصرف أحد المؤشرات الاقتصادية والمالية لقوة الاقتصاد. والتضخم كان وراء الجزء الأكبر لتراجع قيمة العملة المحلية.

وبالنسبة إلى السياسة المالية يقول خربطلي أنه لا يمكن فصلها عن أية عملية اصلاح اقتصادي، والعامل الكابح للاستثمار والاعفاءات الضريبية المشجعة لرفع القيمة الحالية للأرباح. وكبح جماح التضخم بالتحكم بالكتلة النقدية المطروحة في التداول، وعجز الميزان التجاري الذي يمكن معالجة الخلل فيه من خلال إعادة الاعتبار لقواعد الرسوم الجمركية ودعم التصدير والسماح بالاستيراد وتشجيع الادخال المؤقت بقصد التصنيع وإعادة التصدير.

وتحدث المحاضر عن القيم المضافة الصناعية وكيفية تأمينها للقطاع الصناعي مع ذكر العوامل المساعدة لذلك. والأثر الرجعي للتشريعات وضرورة إعادة تقييم القوانين وإلغاء كل ما هو مقيد وإصدار قوانين جديدة .

أما اقتصاد القلة فقد أدى إلى ارتفاع الأسعار وانعكس على سعر الصرف ونوه إلى ضرورة الانتقال من اقتصاد القلة إلى اقتصاد الوفرة .

حلول مقترحة

ومن الحلول التي اقترحها المحاضر اعتماد مؤشر رسمي لأسعار المستهلك يتم من خلال رفع الرواتب والأجور بصورة شهرية حسب ارتفاعات الأسعار المتداولة للسلع والخدمات مع اتخاذ الاجراءات لاستقطاب التحويلات الخارجية، وخلق حالة من المنافسة في الأسواق لتخفيض الأسعار وتفعيل نظام السوق التوازني مع توفير انسياب السلع من المناطق المنتجة إلى المناطق المستهلكة. إضافة إلى تفعيل المحركات الذاتية للنمو الاقتصادي.

إضافة إلى الاستفادة من جميع اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة بين سورية ودول العالم، وتقديم الدعم الفني لأصحاب الأعمال بتحديد السعر التوازني للسلع المنتجة، اعتماد شعار الحياة النوعية وتعني التركيز على منتج عالي الجودة ومنافس ليصبح ملاصق لاسم منتج سوري.

وفي الختام طالب المحاضر كل من يدعي ادراكه في الاقتصاد الكلي والجزئي أن يدلي بدلوه في تشخيص وتحديد الوصفات لتعافي الاقتصاد وعدم الاكتفاء بالوقوف متفرجاً.

أدار الندوة الأستاذ زهير تغلبي الذي رحب بالدكتور خربطلي كونه صديقاً و زميلاً وعضواً في مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية إضافة إلى تعريفه بأنه المشرف على العيادة الاقتصادية السورية ولجأنا إليه لتشخيص الواقع واقتراح الحلول.

وعقب تغلبي بعد المحاضرة بأنها وجبة دسمة ذكرتنا بأيام الدراسة وانتهت الاقتراحات إلى أن ما يحصل حالياً عكسها تماماً. لافتاً إلى أن الجمعية جادة في تسليط الضوء على الاقتصاد السوري خاصة بعد الأزمة وبأن التحليل الموضوعي والحوار المستمر في هذا المجال يوصلنا إلى نتائج ايجابية.

مداخلات

  • د. نبيل سكر : المقترحات الواردة في المحاضرة تحتاج لسنوات إذا طبقت . ماذا تقترح للعامين القادمين؟

وبين د. خربوطلي المفترض أن يكون البرنامج الاقتصادي لسورية دليلاً لمرحلة التعافي ، الانتعاش – الاستدامة.

  • محمد حلاق: اقتصادنا السوري اقتصاد التجريب وهو مشكلة حقيقية. (خلينا نجرب وبكرة منشوف) . واستغرب أن يكون هناك آلية للتسعير وعدم الاعتماد على العرض والطلب.

وعقب خربوطلي قائلاً : المفروض أننا تجاوزنا مسألة تحديد الأسعار وتوفير السلع أهم من ضبط أسعارها.

  • حيدر الأشقر تساءل أيهما أفضل المشاريع الصغيرة أو الشركات المساهمة

أجاب المحاضر بأن المشاريع الصغيرة  أكثر ربحية من المشاريع الكبيرة والشركات المساهمة لها دور في مشاريع تطوير البنية التحية

  • زاهر سروجي- طالب بإعادة تأطير العاملين في القطاعات والنقابات وتمثيلها

أوضح خربوطلي بان الغرف والنقابات يجب أن تنقل هموم العاملين وتكون مرجعاً لبحث أي موضوع يخصهم.

محاضرة غير تقليدية

بالفعل كانت محاضرة اقتصادية غير تقليدية – كما أحبّ الدكتور عامر تسميتها – حيث وصّف من خلالها أبرز وأخطر أزماتنا الاقتصادية بعد هذه السنوات الطويلة من الحرب والتي ماتزال مستمرة ومترافقة مع حصار وعقوبات بالإضافة إلى النهب الأمريكي الحاصل لثرواتنا من النفط والغاز وتعطيل الأراضي المنتجة بكميات كبيرة للقمح والقطن، فلا شك بأننا في دائرة اقتصادية ضيقة وشاذة مليئة بالصعوبات، ومع هذا استطاع المحاضر أن يجترح العديد من الحلول التي يمكن الركون إليها فعلياً لتساهم بالحد من شذوذ هذا الواقع وصعوباته .