بيانكا ماضيّة :
* في أثناء مهرجان الأغنية السورية الذي أقيم في قلعة حلب، دورة عام 1997، كنا نعد في صحيفتنا (الجماهير) ملحقاً خاصّاً بالاحتفالية بإشراف اللجنة الإعلامية العليا التابعة للمهرجان. حينها رأيت لأول مرة الدون كيشوت حكم البابا (صحفي خائن) ممّن اعتبر نفسه ثوراً صغيراً في صفوف الثيران التي خربت وسرقت وطعنت وقتلت البلاد، والذي اعتبر، بسبب عماه أو حوَله الفكري، أنّ ما سمّي زوراً وبهتاناً “الثورة السورية” مثل قضيّة فلسطين لا يمكن أن تبطل أو تصبح موضة قديمة!!! وشتّان ما بين القضيّتين. وأنَّ أهم ما عاشه في حياته هو هذا الجنون اللاأخلاقي واللاوطني، وكان يحلم – كما يحلم آخرون واستفاقوا من الحلم على صدمة الواقع الذي سبّب لهم ألماً بالغاً – كان يحلم أن يعود إلى دمشق ليحتفل “بالنصر والحرية”!!. (حلم إبليس بالجنّة).
رأيته حينها لأول مرة مع فتاه سانشو محمد منصور، الذي نعاه منذ ثلاثة أشهر بوصفه “المؤمن العنيد بأن قدر السوري أن يقاتل من أجل كل شيء، وفي مقدمة ذلك: الكرامة والحرية”!! نعم، الحرية التي رأيناها بأم أعيننا، حرية القتل والتدمير والتخريب وإسالة الدماء… قلت رأيته لأول مرة، وذلك في غرفة التنضيد، قبل الحرب أثناء مهرجان الأغنية السورية، الغرفة التي كانت تعجّ بالأصوات، حينها اتخذ زاوية في الغرفة، وراح يكتب مقالته الصحفيّة “النقديّة”. استغربت آنذاك، كيف يستطيع كتابة مقال نقدي عن الأغنيّة السوريّة في ظلّ هذا الضجيج؟! عرفت مؤخراً أنّه كان متقلّب المزاج في كلّ شيء، عدا موقفه من (ثورة القمامة). ذكّرتني الآن مفردة القمامة بالمفردة الأخرى لها، وهي (الزبالة)، ذكّرتني بذاك البائع الجوّال الذي كان يمرّ من حارتنا قبل الحرب، وهو ينادي بأعلى صوته “كيلو أكياس الزبالة ب75 ليرة”. يا للرخص!.
* البارحة ذهبت لأقبض راتبي من المصرف العقاري الملاصق لسوق “باب جنين”، والذي تمّ نقله من حيّ العزيزية إلى هناك بسبب تضرّر البناء جرّاء الزلزال، وفي أثناء مروري بالسوق تساءلت عن سعر ورق العنب الأخضر، لأقدّر الفارق بين سعره هنا، وسعره هناك. تضاربت الأسعار ما بين العشرة آلاف والثلاثة عشر ألفاً، وكل بائع يبيع كما يحلو له. أكملت طريقي فإذا بسيدة تسأل أحد الباعة عن ورق العنب أيضاُ، فيجيبها: 15 ألف!!!!… وما إن ابتعدت خطوة حتى سمعته يتفوّه بكلمة لا توجد في قواميس اللغة، إذ قال: (لأنك ظاظ)!!! قالت له: تأدّب مع النساء وأنت في السوق!. ما هذه المفردة السوقيّة جداً!
وما هي إلا خطوتان حتّى سمعت فتى يستقلّ دراجة هوائية وهو يشتم امرأة عجوزاً بكلمة نابية جداً؛ لأنها كادت أن تصطدم به مِن دون أن تتنبّه لمروره من أمامها. وفيما توقّفت لشراء الزعتر الأخضر، وكان البائع قد نسّق الزعتر بجانب الخسّ، امتدّت يد امرأة من جانبي، واستلّت واحدة من دون أن تسأل البائع كم سعرها، التفتّ لأراها، فإذا هي مختفية عن الأعين… هذه هي أخلاق سوق “باب جنين” العتيد!.( سلطة كتب) ( حليب بالسطل).
* أمس فيما كنت أشارك إلى صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي الفيديو الذي يُظهر مقطعاً من مسرحية شقائق النعمان، التي كتبها محمد الماغوط، وأخرجها دريد لحام وشكيب غنّام، تذكّرت كتاب الماغوط (اغتصاب كان وأخواتها)، وتذكرت تلك المقالة التي كتبتُها عن الكتاب قبل الحرب، ونشرتها في صحيفتنا الجماهير، والتي استشهد بها الدكتور عبد الكريم الأشتر في أحد مؤتمرات مجمع اللغة العربية (هكذا قال لي حينها رحمه الله)، إذ ذكرتُ في مقدّمتها عبارة وصفها آنذاك في المجمع بالتجديد في اللغة. بحثت عن المقالة في الغوغل، لم أجد شيئاً، تذكرت أنه تمّ تهكير المواقع الإلكترونيّة لبعض الصحف السورية بعد تحرير حلب، الآن بتّ أعرف بما لا يدع مجالاً للشكّ من قام بالتحريض على ذاك التهكير، ولكنْ.. ربّما نسي هؤلاء الخبثاء ذوو جلد الرقطاء أنّ لدينا أجهزة أخرى حفظت كل ما دوّناه قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها، ولئن أرادوا محو كلّ شيء حتى الذاكرة السورية..إلا أن سورية موجودة قائمة لاتفنيها حروب مادام هناك من يدافع عنها، وهذا أهم مافي الأمر كله، ولتذهب المقالات والقصص، ولكن… كلّ ما تمّ تدوينه في تاريخ الحرب موجود، وبالتالي كل مقالاتي وقصصي موجودة و(كاسك ياوطن)!.