جديد 4E

في إطار ما يبدو تنمّراً حكومياً على المواطنين .. المهندس قرنفلة يتأمل في سياسات الدعم الاجتماعي

 

 

لم يفد أي حديث عن التنمّر الذي تمارسه الحكومة الحالية على مواطنيها، من حيث عدم اكتراثها بالواقع الصعب الذي وصل إليه المواطنون نتيجة إجراءاتها الجائرة، والتي بدت كأنها تساوت – إن لم تكن قد فاقت – ارتدادات الحرب والظلم والحصار الذي يخيّم على البلاد.

تنمّر اخترق الأعراف والمفاهيم، وأحياناً القوانين، وصولاً إلى استسهال اختراق الدستور أيضاً وبكل بساطة، فالحكومة تدرك قبل غيرها بأنها مكلفة دستورياً بإحداث توازن مستمر بين الدخل والأسعار، ولكنها مع الأسف تقوم بعكس ذلك، فماذا يعني – مثلاً – زيادة سعر الاسمنت إلى هذا الحد الكبير وهو منتج وطني ..؟! هذا يعني باختصار زيادة أسعار المساكن لزيادة كلف البناء والاكساء، عجز الشباب – والمواطنين بشكل عام – عن تأمين مسكن، أو استئجار منزل، لأن الإيجارات سرعان ما ترتفع مع ارتفاع أسعار المساكن، وبالتالي عجز الشباب عن تكوين أسرة، وما يتبع ذلك من منعكسات نفسية واجتماعية ومعيشية.

ماذا يعني رفع أسعار المشتقات النفطية ..؟ إنه باختصار يعني زيادة تكاليف النقل، وهذا يعني رفع أسعار كل شيء.

ماذا يعني رفع أجور المكالمات الهاتفية ولاسيما مكالمات الخليوي في الوقت الذي تحقق فيه شركتا الخليوي أرباحاً بعشرات المليارات سنوياً ..؟! إنه يعني في النهاية زيادة الأعباء على المواطنين وعرقلة أعمالهم التي صار الكثير منها مرتبط بالاتصالات والانترنت .. !

الصديق العزيز المهندس عبد الرحمن قرنفلة يستعرض في هذه المقالة الشيقة بعض القضايا التي يعاني منها المجتمع السوري مُعتمداً على خبرته الواسعة وتجاربه العملية، ويقدم الحلول الناجعة لها، ولكني لا أرى في هذا الجهد المشكور أكثر من حالة تشبه الحلم، أمام سياسة الازدراء الحكومية.

وعلى الرغم من صعوبة تحقيق الأحلام باعتبارها حالة سرابيّة أشبه بالوهم فإن تحويلها إلى حقيقة على الأرض ما هو إلا أمر ممكن عندما تتحول السياسات والقناعات بالإرادة الصادقة من مجرد أقوال ووعود خلبية إلى أفعال في إطار الإحساس بالمسؤولية وعدم الانفصال عن الواقع.

علي محمود جديد

 

مطلوب سياسات تعكس اتجاه تزايد الفوارق الاقتصادية بين السكان وسياسات عامة لمعالجة الفقر دون إبطاء النمو الاقتصادي

 

المهندس عبد الرحمن قرنفلة:

شهدت السنوات الأخيرة انخفاضا حادا في القدرة الشرائية لشريحة واسعة  من المواطنين في مجال تلبية نفقات الاحتياجات الأساسية للأسرة ، وتدهوراً في الأوضاع الاقتصادية والأحوال المعيشية لغالبية السوريين، مدفوعاً بعوامل معقدة بعضها يرتبط ارتباطا وثيقاً بالتأثيرات السلبية للحرب التي تعرضت لها البلاد على مفاصل الاقتصاد السوري، وعلى قدرات البلاد الإنتاجية في كافة قطاعات الاقتصاد ، وبعضها ناتج عن محاولات حكومية ضبابية سعت لتوليد حلول لتحييد تلك التأثيرات السلبية عن دخل المواطن دون إبطاء النمو الاقتصادي إلا أنها لم تنجح في تحقيق غاياتها  .

 كما شهدت أيضا تسارعا غير مسبوق في التفاوت في الثروة والدخل ونموا في عدم المساواة الاقتصادية  بين شرائح المواطنين ، وتباينات كبيرة حسب الشريحة الاجتماعية ،  وحالة ملكية المنازل والتعليم ، حيث ازدادت ثروة أصحاب العقارات وبعض فئات التجار ، وبعض أصحاب المهن العلمية ، بينما تدهورت بالنسبة لمعظم العاملين في القطاع الحكومي العام والمستأجرين وأولئك الذين لم يحصلوا على فرص متابعة التعليم العالي . حيث أظهرت مؤشرات المسوح الثلاثة للأمن الغذائي، التي نفذتها الحكومة السورية بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي خلال السنوات 2015-2017-2019 أن ثلث السوريين تقريباً يعانون من انعدام أمنهم الغذائي، وأن حوالي النصف معرضون لفقدان أمنهم الغذائي .

و في حين أنه أمر محبط ، من المهم أن يستوعب المواطنين أن عدم المساواة ليست هي الأثر الجانبي الوحيد  للحرب . حيث يمكن للسياسة العامة أن تساعد في الحد من عدم المساواة ومعالجة الفقر دون إبطاء النمو الاقتصادي وهذا يستلزم  وضع حلول سياسية يكون لها تأثير ايجابي على عكس تزايد عدم المساواة  ، وسد الفوارق الاقتصادية بين مجموعات المواطنين ، وتعزيز الحراك الاقتصادي للجميع  بما يلبي معالجة الفقر ودفع النمو الاقتصادي للبلاد .

البداية من الزراعة :

توفر فرصة إعادة تقييم ترتيب موقع الزراعة في بنية الاقتصاد السوري فرصة لإعادة تشكيل السياسات الزراعية الحالية المعطلة، لبناء إطار عمل أكثر عدلاً يخدم بشكل أفضل المزارع العائلية الصغيرة والمتوسطة الحجم في البلاد، ويعزز الإشراف الجيد على الأرض، ويساعد في التغلب على الفقر في الريف، ويساعد المزارعين الضعفاء وأسرهم .

حيث يعتمد نسبة كبيرة من سكان البلاد على الزراعة لكسب الرزق.  ويعيش معظم الأشخاص الذين يعانون من الفقر أو الفقر المدقع في جميع أنحاء القطر في المناطق الريفية، لذا فإن الإصلاح الزراعي هو وسيلة أساسية للتخفيف من حدة الفقر.

على مدى سنوات، ضمنت الحكومات المتعاقبة الحد الأدنى من الأسعار للمزارعين وسمحت لهم ببيع بعض المحاصيل للحكومة عندما كانت الأسواق مضطربة، وتعتبر الإعانات لبعض المحاصيل السلعية مثل القمح والشعير والحمص والعدس والقطن والشوندر السكري والتبغ أكثر الاعانات شيوعًا. ومع ذلك، فإن الهيكل الحالي يستبعد أو يترك وراءه العديد من صغار المزارعين ومربي الماشية والدواجن الذين يتعين عليهم التنافس مع المنتجين الأكبر والمزارعين الأكثر ثراءً.

لذلك مطلوب إعادة تشكيل سياساتنا الزراعية الحالية لبناء إطار عمل لتعزيز برامج الأمن الغذائي، وعلى مجلس الشعب اعتماد سياسات تدعم المزارعين الصغار، وتعزز التنمية الريفية، وتحد من الفقر وتكون ذات تأثير ايجابي على الفقراء والمزارعين الصغار ومنتجي الأغذية والمستهلكين وتعزيز الحفاظ على الإبداع ولعل تحويل الدعم الإنتاجي من دعم المدخلات إلى دعم المخرجات وفق محددات كمية وفنية بما يكفل جدوى الدعم وتحقيق الغاية منه دون هدر. مثل دعم المحاصيل الاستراتيجية عند تسليم المحصول وفق الشروط المطلوبة كماً ونوعاً”. يعتبر خيارا مقبولاً تطبقه العديد من الدول، ويمكنه أن يحد من قضايا الفساد والهدر ويشجع على إنتاج السلع والمواد المراد زيادة انتاجها .

وضع سياسات لمواجهة تأثير تغير المناخ والبيئة

يؤثر تغير المناخ والتدهور البيئي بشكل غير متناسب على أولئك الذين يعيشون في فقر وفي المناطق المعرضة للكوارث الطبيعية حيث يتدهور الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني بفعل تطرف الظواهر المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدل الهاطل المطري وسوء توزيعه ، كما يتراجع دور المراعي الطبيعية في إمداد الثروة الحيوانية بنسبة معنوية من حاجتها للأعلاف ،  ويجب حث الجهات التشريعية والسلطات التنفيذية  على اتخاذ إجراءات شجاعة وتطوير استراتيجيات تهدف إلى تعزيز بيئة متكاملة تراعي معًا حماية الطبيعة ، والحاجة إلى تنمية اقتصادية عادلة ، وتعزيز كرامة الإنسان ، وخاصة كرامة الفقراء.

رفع الحد الأدنى للأجور و ربطها بمؤشر غلاء المعيشة :

تظهر الأبحاث أن الأجور الأعلى للعمال الأقل أجراً لديها القدرة على مساعدة ما يقرب من 2.5 مليون شخص على الخروج من الفقر وإضافة مبالغ كبيرة  إلى إجمالي الدخل الحقيقي للدولة. بالإضافة إلى ذلك ، فإن زيادة الحد الأدنى للأجور لا تضر بالتوظيف ولا تؤخر النمو الاقتصادي. ومن جانب آخر يجب تحريك أجور العاملين بشكل آلي ومتوازي مع كل ارتفاع بمؤشرات أسعار السلع الأساسية في الأسواق بهدف الحفاظ على مستوى معيشي مقبول للفئات الأقل دخلاً في القطاعين العام والخاص ومما يشجع على العمل في الوظائف الحكومية التي بدأ بريقها يتلاشى ولم تعد تشكل عامل جذب للفئات الأكثر نشاطاً وكفاءة عملية وعلمية مع تراجع مستوى العائد من العمل الحكومي وهذا شجع تلك الفئات عن البحث عن العمل خارج البلاد .

رفع سوية التعليم وسياسات الاستيعاب الجامعي الحكومي

الاستثمار في التعليم  يعتبر من أكثر العوامل التي تساهم في كبح سرعة عدم المساواة في الدخل ، و تعتبر الاختلافات في التعليم المبكر وجودة المدرسة من أهم المكونات التي تسهم في استمرار عدم المساواة عبر الأجيال إن الاستثمارات في التعليم ، التي تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة مع برنامج إعداد “الجميع لمرحلة ما قبل الروضة” ، والمعروف أيضًا باسم “وصول الجميع لمرحلة ما قبل المدرسة” ، الذي يعد إطارًا للسياسة يضمن لأي عائلة ترغب في تسجيل طفلها في سن ما قبل المدرسة في برنامج رعاية وتعليم ممول من القطاع العام لمرحلة ما قبل الروضة ان تتخذ هذا الاختيار .  في وقت أصبحت فيه الرعاية والتعليم المبكران إما /نفقات لا يمكن إدارتها أو غير متوفرة عمليًا / للعديد من العائلات التي تحتاجها أو تريدها ، لقد اثبتت دراسات علم الدماغ  في مرحلة الطفولة المبكرة أن التطور الفكري والصحي والعاطفي الاجتماعي المهم يحدث قبل سن الخامسة بوقت طويل – وهو العام الذي يسبق السن الذي نبدأ فيه التعليم الرسمي في بلدنا . تُظهر العديد من الدراسات أن الأطفال الصغار ، من سن الرضاعة فصاعدًا ، يتعلمون طوال الوقت ، بغض النظر عن المكان الذي يتواجدون فيه – سواء كان ذلك في برنامج رعاية وتعليم مبكر أو في المنزل مع أحد الوالدين ويستفيد الأطفال الذين يخضعون لبرامج الرعاية والتعليم المبكرة التي توفر فرصًا متسقة ورعاية ومناسبة من الناحية التنموية للتنمية المعرفية والاجتماعية بشكل كبير على المدى القصير والطويل ، ويستفيد الأطفال من الأسر ذات الدخل المنخفض أكثر من غيرهم هذه الفوائد لها آثار إيجابية ليس فقط على الأطفال والأسر ، ولكن أيضًا على مجتمعاتنا الأوسع بينما نقوم بتعليم الجيل القادم ويؤدي التفاوت في الوصول إلى تعليم مبكر عالي الجودة إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في نمو الأطفال. لا يحد هذا من قدرة الطفل على الإنجاز فحسب ، بل يحد أيضًا من قدرة الوالدين على زيادة دخلهم من خلال العمل ، مما يؤثر بشكل أكبر على فرص الطفل.

ان الاستثمار في التعليم يمكن ان يزيد من الحراك الاقتصادي ، ويساهم في زيادة الإنتاجية وتقليل عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية .

معالجة واقع النظام الضريبي

إن المبدأ الاقتصادي الأساس يقول ( خزينة الدولة جيوب رعاياها ) وهو ما يمثله النظام الضريبي الكفؤ في تحقيق ايرادات عادلة للدولة من خلال مساهمة الانشطة الاقتصادية المختلفة في امداد الدولة بجزء محدد من ارباحها الفعلية المحققة ، لتتمكن الحكومات من الانفاق على الخدمات العامة ودعم الفئات الاكثر فقراً .

إلا أن  نظامنا الضريبي لايزال بعيدا عن  تحقيق حالة  العدالة الضريبية  ،ولابد ان يكون  قانون الضرائب أكثر تصاعدية. إنها مفارقة كبيرة أن معدلات الضرائب على من هم في القمة آخذة في الانخفاض حتى مع زيادة نصيبهم من الدخل والثروة بشكل كبير و تظهر البيانات أننا أنشأنا سياسة ضريبية سيئة من خلال عدم تحقيق العدالة الضريبية حيث يدفع العاملون في الدولة نسبة  من رواتبهم تتجاوز بشكل كبير النسب التي يدفعها أصحاب الأعمال على دخولهم الوهمية التي يقدمونها لموظفي الدوائر المالية في ظل كثير من حالات الفساد ، و يجب تعديل معدلات ضريبة أرباح رأس المال بحيث تتماشى مع معدلات ضريبة الدخل

بناء الأصول للأسر الفقيرة العاملة

يمكن للسياسات التي تشجع معدلات ادخار أعلى وتقلل من تكلفة بناء الأصول للأسر العاملة وأسر الطبقة المتوسطة أن توفر أمنًا اقتصاديًا أفضل للأسر المتعثرة كما يمكن أن تساعد البرامج التي تسجل العمال تلقائيًا في خطط التقاعد وتوفر ائتمانًا ادخاريًا أو تطابقًا مع حسابات مدخرات التقاعد الأسر ذات الدخل المنخفض على بناء الثروة  ويعد الوصول إلى الخدمات المالية العادلة والمنخفضة التكلفة وملكية المنازل من المسارات المهمة أيضًا للثروة وهذا يقتضي التوسع في انشطة المؤسسة العامة للاسكان ونشاط الادخار السكني

تأسيس صناديق إعانات ودعم خاصة في كل قطاع

إن الدول التي توفر مظلة رعاية اجتماعية متكاملة لمواطنيها تتمتع بنظام ضرائب عالي الكفاءة ، كما ترتكز على صناديق الدعم والإعانة الخاصة التي تشكلها مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني بالتعاون مع مؤسسات التمويل الخاصة ، وترتكز تلك الصناديق على قاعدة / تمويل المنافع الخاصة من الموارد الخاصة / وعلى سبيل المثال يمكن لمربي الدواجن تأسيس صندوق ( دعم تدهور الأسعار ) يتم تمويله من المربين أنفسهم عبر دفع مبلغ مالي محدد عن كل طير تتم تربيته في كل دورة إنتاجية ، ويقوم هذا الصندوق بتعويض المربي حال انخفاض سعر السوق عن سعر التكلفة بدفع الفارق بين قيمة التكلفة الفعلية وبين سعر السوق . وهذا ينسحب على باقي الأنشطة في كافة مفاصل القطاعات الاقتصادية . كما يمكن تأسيس صناديق لمعالجة حالات (الكوارث )التي يتعرض لها أصحاب البيوت الزراعية البلاستيكية . ولا بد من تفعيل صناديق التأمين على الماشية وعلى المحاصيل الإستراتيجية وكل ذلك تحت مظلة قانونية حكومية وبتعاون وثيق مع مؤسسات التمويل والبنوك الخاصة التي تحقق عائد مالي من خلال استثمار الاموال المودعة لديها من قبل تلك الصناديق .