تدمر .. و نخيلها الذي لا ينحني
عبد المنعم علي عيسى:
تقول الوثائق عنها أنها مأهولة قبل التاريخ ، ولربما سكنت منذ الألف السابع قبل الميلاد مما تشير إليه بعض تلك الوثائق ، أما المتعاقبون على سكناها فكانوا كثر ، شأنها في ذلك شأن جوارها الجغرافي الذي كتب حراكه تاريخ المنطقة الممتد لآلاف السنين ، ومن هؤلاء كان البابليون والإغريق الذين أعقبهم الفرس ثم السلوقيين فالرومان الذين كان لها معهم – وفي الأمر ما يدعو إليه – تاريخ امتزج بالأسطورة ، حتى غدا الفعلان ، التاريخ والأسطورة ، موروثا تختزنه ” الجينات ” المسؤولة عن توريث الصفات التي لا تقتصر هنا على اللون والطول وطبيعة الشعر ، لتتعدى ذلك فتطول صفات أخرى من نوع الأنفة والكبرياء والشموخ مما سيبين في أتون ” المحدلة ” التي عاشتها البلاد منذ نحو عقد والتي لم تتوقف عن دورانها بعد .
عنت تسميتها بلغة العموريين ” بلد المقاومين ” ، وفي اللغة الآرامية السورية عنت التسمية ” البلد الذي لا يقهر ” ، في حين سماها الإغريق ” بالميرا ” الإسم الذي جاء مشتقا من اسم النخيل في اللغة اللاتينية ، واسمها الحالي ، تدمر ، يعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، وعلى الرغم من أن هذا الاسم لا يعرف له معنى محدد ، إلا أن الغالب فيه هو أنه مشتق من جذر ” دمر ” ، بفتح الحروف الثلاث ، الذي يعني ” حمى ” ، بفتح الحرفين الأولين ، في اللغات التي سادت شبه الجزيرة العربية في تلك الفترة .
مع بداية احتلال الرومان لسوريا العام 64 م ، ودخول المنطقة العصر الروماني ، شهدت المدينة انتعاشا تجاريا كبيرا حتى غدت معبرا لا بديل عنه للقوافل التجارية ما بين الشرق والغرب ، وازدهارا حضاريا كان قد ظهر ، أكثر ما ظهر ، في القوانين والشرائع التي استنتها المدينة لنفسها ، وكذا لعبور قوافل التجارة فيها ، حتى أضحى ذلك النظام ينافس نظرائه عند الفرس والرومان الذين كانوا سادة في هذا المجال ، ومع بروز دور ” الساسانيين ” وسيطرتهم على ضفاف الفرات مطلع القرن الثالث الميلادي بدأت المدينة شيئا فشيئا تفقد سيطرتها على الطرق التجارية الأمر الذي أدى إلى تعرضها لاضطراب في نظامها الإقتصادي والمالي ، وما زاد في الطين بلة هو أن روما تركت ” درة الشرق ” ، كما كانت تسميها هذي الأخيرة ، أسيرة اضطرابها الذي راح يختط مسارات تميل إلى الضعف من النوع الذي يثير رغبات وجموح الخارج ، وعلى الرغم من أن ” أذينة ” ، الملك العربي ، كان قد استطاع ردع الطامعين مرات كان أبرزها رد الفرس عن أسوار المدينة لمرتين لا تفصل بينهما سوى سنوات ، إلا أنه وجد نفسه أيضا في حالة صدام مع الروم لأسباب كانت في جوهرها تتعلق بالتخلي الاقتصادي عن المدينة التي شكلت على مدى قرنين خط دفاع أول عن بلاد الشمال ، والصدام بين الطرفين كان قد بلغ أوجه العام 267 م عندما استطاع ” أورليان ” قائد جيش الروم هزيمة الملك ” أذينة ” في معركة ” إيماي ” بالقرب من انطاكية ، ما أدى إلى تقهقر الجيش وانسحابه للدفاع عن حدود المدينة التي قاومت لمدة تزيد عن العام بعد حصارها ، ثم لم يلبث هذا الأخير أن قتل في ظروف غامضة إبان قيامه برحلة صيد كان إطارها لا يتعدى حدود بعض الكيلومترات عن قصره في قلب تدمر ، لتعقبه زوجته ” زنوبيا ” التي تولت مقاليد الحكم كوصية على ابنهما ” وهب اللات ” الذي كان قاصرا عندما مات أبوه .
كان تربع ” زنوبيا ” ، واسمها ميسون بنت عمرو بن الصميدع وهي من عشائر الفرات الأوسط أي سوريا ، على عرش تدمر إشكاليا لاعتبارات عدة ، بعضها يتعلق بكونها أنثى الأمر الذي لم يكن يحبذه كهنة تدمر ، لكنها استطاعت فرض نفسها بقوة كوصي على العرش وحاملة لراية نهوض تدمر ، وفي غضون ذلك استعادت تدمر بعضا من بريقها الذي كانت قد افتقدته على نحو وازن ، والشاهد هو أن بلاط ” زنوبيا ” كان يعج بالفلاسفة والكتاب والأدباء على الرغم من قصر إقامتها فيه ، لكن السبب الرئيس الذي أدى إلى سقوط عرشها ، ومدينتها التي أضحت بعدها أطلالا دارسة ، هو طموحها الذي كان يفوق قدرات دولتها ، فهي وإن استطاعت ترسيخ صورتها كعاشقة للشرق ولربما حلمت في سياق ذلك العشق بحكم روما بعد إلحاق عرش الأخيرة بعرشها لا العكس ، إلا أن ذلك كان يحتاج لوقت طويل حتى تستطيع مراكمة أسباب القوة الكفيلة بتحقيق ذلك الحلم الذي كان ممكنا خصوصا أنها ، أي زنوبيا ، كانت قد نجحت في توحيد بلاد الشام تحت عرشها ثم ضم مصر والأناضول إلى هذا الأخير في غضون فترة قصيرة .
كان التوسع الناجح لتدمر قد أثار قلق الروم بدرجة كانت تحتم الصدام من جديد ، وهو ما تبدت ملامحه تلوح في الأفق منذ أن قررت زنوبيا إعلان نفسها ملكة متخلية عن لقب ” الوصية على العرش ” الأمر الذي التقطته روما واستشعرت المخاطر التي يمكن أن تتأتى جراء ترسخ تلك الظاهرة ، ثم راحت هذي الأخيرة تعد العدة للمنازلة الكبرى التي حدثت في معركة ” إيميسا ” العام 272 م التي عمقت جراح تدمر بعد هزيمة جيش زنوبيا فيها تحت قيادة ” زبداس ” الذي كان يرى في الدفاع عن مليكته دفاعا مقدسا وهو لا ينفصل عن الدفاع عن تدمر بعد أن حاول ” أورليان ” شق صفوف التدمريين ، قبيل وقوع معركة إيميسا ، عبر إرسال وسيط قدم ل ” زبداس ” عرضا مفاده أن تنحي زنوبيا عن العرش سيكون أمرا كفيلا بتجنب المدينة التدمير الذي لقيته فيما بعد .
وما جرى هو أن المدينة غدت شبه خاوية بعد هروب زنوبيا التي ظل مصيرها رهنا بتكهنات لا يزال من الصعب التحقق من أي منها ، ثم راحت المدينة تتلاشى بفعل الضغوطات التي مارسها الرومان بعيد انتصارهم آنف الذكر ، وشيئا فشيئا تقلص الدور ، ثم تقلصت فعاليات الحياة والانتعاش اللتان راحتا تضمحلان على وقع انهيار الحلم ، لكن الثابت أن تجربة زنوبيا كانت قد حملت على المورثات التي تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل ، ولربما احتاج الفعل لوقت طويل لكي يتكشف أن تلك المورثات لا تزال تحمل الخريطة الوراثية نفسها ، باختصار احتجنا إلى 1743 عام لكي نحصل على دليل قاطع بذلك .
خالد الأسعد .. حارس تدمر
عالم آثار وباحث سوري من مواليد تدمر 1934 ، درس التاريخ في جامعة دمشق ثم عاد إلى مدينته ليشغل منصب مدير الآثار والمتاحف فيها ما بين 1963 – 2003 ، وفي غضون تلك الفترة المديدة عمل مع العديد من البعثات الأمريكية والفرنسية والإيطالية والألمانية ، وفي غضونها أيضا اكتشف القسم الأكبر من شارع الأعمدة الطويل الذي أعاد ترميم 400 عمود طويل فيه ، واكتشف ساحة المصلبة ” التتراتيل ” ثم مدفن ” بريكي بن أمريشا ” عضو مجلس الشيوخ التدمري زمن زنوبيا ، وكان له الفضل في ترميم معبدي ” بعل شمين واللات ” ثم إعادة تأهيل المسرح الروماني بدءا بأعمدته ومرورا بمنصته ثم وصولا إلى أدراجه .
كرس الأسعد خمسين عاما من حياته لحماية آثار تدمر وإعادة ترميمها ، وقد استمر في أبحاثه حتى بعد أن ترك منصبه كمدير لمتاحفها العام 2003 ، وله مؤلفات عدة تجاوزت ال 40 كان أبرزها ذاك الذي عنونه ” مرحبا بكم في تدمر ” الذي يعتبر خارطة علمية و حضارية لهذه المدينة التي غاصت في التاريخ حتى غدت من كبريات أوابده التي ترفض الزوال ، كما كانت له المئات من المقالات والدراسات المنشورة على صفحات العديد من المجلات المختصة وكلها تعنى بدراسة تاريخ تدمر وحضارتها التي انغمس فيها حتى باتت الجزء الأهم في حياته .
عندما سرت تقارير تؤكد توجه ” داعش ” إلى تدمر مطلع شهر آب 2015 أرسل الأسعد ثلاثة من أبنائه وصهره – زوج زنوبيا ابنته الكبرى – إلى دمشق بعد أن قال لهم في وداعهم ” أنا لن أغادر تدمر ، وسوف أبقى هنا حتى لو قتلوني ” ، وفي صباح 18 آب من العام 2015 ظهرت مجموعة من حملة ” الرايات السود ” برفقة الأسعد الذي بدا مجللا بوقار لم يكن غريبا عنه ، فيما أشارت وكالات إلى أن ذلك ” الإقتياد ” كان بعد يأس تلك المجموعات من انتزاع اعتراف منه بمخبأ ” كنوز تدمر ” ، ثم يظهر الشريط أن المجموعة أمرت الأسعد بالركوع فكانت آخر كلماته التي نطق بها ” نخلات تدمر لا تنحني ” مثبتا أنه هو ” الأشم ” من بين تلك النخلات ، ثم علق جسده ، مقطوع الرأس ، على أحد أعمدة الكهرباء في الشارع الرئيسي للمدينة وتحته علقت لائحة اتهام عريضة كان كل حرف فيها يقول أن الأسعد ظل حتى آخر لحظة في حياته أمينا على ” تدمره ” وأمينا معها على حضارتها .
ليلا تسلل أحد التدمريين وحمل رأس ” الشهيد ” ليقوم بدفنها داخل سور أحد البيوت ، وفي 7 شباط 2021 عثرت السلطات السورية على جثمان الأسعد في منطقة تدعى كحلول شرقي تدمر وقد جرى التأكد منها عبر عينات DNA التي أثبتت أنها تعود للشهيد الأسعد .
قوبلت حادثة الأسعد باستياء عالمي كان قد تمظهر عبر العديد من المظاهر ، إذ قامت العشرات من المراكز العالمية التي تعنى بالثقافة بتنكيس أعلامها حدادا عليه ، في حين كرسته بلاده حارسا .. وأمينا .. وشهيدا .