جديد 4E

اللواء السليب : قلعة العروبة و أرض “بعثها ” من جديد

 

عبد المنعم علي عيسى :

وصل العرب المسلمون سنة 16 للهجرة ( 638 م ) إلى جنوب جبال طوروس الفعل الذي قاد إلى تحرير ” اللواء ” من السيطرة البيزنطية ليصبح الأخير فيما بعد هذا التاريخ خطا أول في مواجهة هؤلاء ، وعندما عاود الصليبيون حملاتهم على المنطقة 1096 – 1291 م وقع ثانية تحت سيطرتهم ، ليعاود العرب تحريره بعد معركة حطين 1187 التي انطلق فيها صلاح الدين الأيوبي من دمشق لتحرير القدس ، وعندما وقعت المنطقة العربية تحت الاحتلال العثماني 1516 م أضحى اللواء تحت سيطرة هؤلاء الأمر الذي ستكون له تداعياته الأكثر خطورة عليه من باقي المناطق قياسا لعامل الجغرافيا الذي وضعه في تماس مباشر مع الغزاة العثمانيين الذين قامت أيديولوجيتهم على ” التتريك ” سبيلا لوأد الهوية وخياراً للسيطرة الدائمة أو المديدة على أقل تقدير ، وفي حينها أضحى اللواء تابعا لولاية حلب ومرفأها المطل على البحر .

اسكندرونة

بعد نحو أربعة قرون ، وعندما هبت رياح الحركة العربية 1916 للتخلص من النير العثماني ، عاد اللواء إلى حضن السيادة الوطني ، وإن كانت مراسيم التقسيم الفرنسية قد منحته ” كينونة ” دولة لكنه عاد من جديد العام 1926 إلى حضن السيادة عينه في سياق شهدته كل ” الدويلات ” التي سعت فرنسا إلى إحداثها في سوريا ، وفي العام 1938 انسحبت القوات الفرنسية ” المنتدبة ” من اللواء مفسحة المجال أمام قيام ” حكم ذاتي ” كان ممهدا لدخول القوات التركية التي دخلته مطلع العام 1939 ، ثم قامت بضمه و إعلانه جزءا من الدولة التركية في مخالفة صريحة لصك الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدبة الحفاظ على أراضي الدولة المنتدبة عليها ، فاللواء وقع في اتفاقية سايكس بيكو 1916 داخل المنطقة الزرقاء التي يجب أن تخضع للانتداب الفرنسي ، وفي معاهدة سيفر 1920 اعترفت الدولة التركية بعروبة منطقتي لواء اسكندرون وقيليقية التي تضم مرسين وأضنة ، إلا أن ذلك لم يحل بينها و بين ” السلخ ” الذي جرى بعد نحو 19 عاماً على تلك الاتفاقية ، وفي السياق راحت الدولة التركية تعمد إلى ترسيخ دعائمه عبر اعتماد سياسة التغيير الديموغرافي ثم محاولة تتريك من تبقى ، المشكلة التي زادت من قضية اللواء صعوبة .

يُشَخّص الصحفي اللوائي ( سومر سلطان ) تلك المشكلة في لقاء له مع قناة الميادين بالقول ” تعد قضية التتريك الفيصل في مستقبل القضية بأسره ، فبعد تلك الأعوام أصبحنا نجد عبئا ثقيلا وبالغا في العودة إلى الجوهر العربي السوري الكائن في النفوس ، فنتيجة هجرة كبيرة من المثقفين أصبح الشعب بلا قيادة ، وهو ما أضعف مناعته ضد غزوات الفكر الأجنبي ، واستمرت هذه الحال من الفراغ السياسي حتى يومنا هذا ، ولم تظهر بعد ، حتى يومنا هذا ، قوة سياسية قادرة على أن تمثل امتدادا حقيقيا للمقاومة ” .

لكن الشاهد هو أن نسيج اللواء المجتمعي والثقافي كان قد أبدى ضراوة في مقاومة ” التتريك ” ولا غرابة أن تظهر محاولات ” بعث العروبة ” الجديدة في اللواء الذي تهددت فيه صبغة العروبة بالزوال .

زكي الأرسوزي:

مفكر و فيلسوف وسياسي سوري مواليد اللاذقية 1899 ، لكن جذوره تعود لبلدة أرسوز باللواء ، يعد من أهم مؤسسي الفكر القومي العربي في العصر الحديث ، درس الفلسفة بجامعة السوربون الفرنسية ، وعندما احتدم الصراع على ” لوائه ” عمل على تأسيس جريدة ” العروبة ” التي نادت بالحق العربي وإلغاء التمييز والدفاع عن العروبة كنهج وهوية .

ومن خلالها قاد الأرسوزي حملة لمقاومة التتريك ، حيث ستنتشر أفكاره كما النار في الهشيم في أوساط الطلبة والمثقفين والنخب ، الأمر الذي كرسه في موقع الزعيم القومي الذي استولد لديه فكرة ” بعث الأمة ” ، ومنذ العام 1940 سيسعى إلى تأسيس حزب قومي عربي شعاره  ” بعث الأمة العربية ” الفعل الذي شكل الجنين لأفكار ميشيل عفلق الذي نهل منه فكرة تأسيس حزب يحمل اسمها ونهجها ، وهو الحزب الذي رأى النور في نيسان من العام 1947 تحت اسم ” حزب البعث العربي ” الذي عقد مؤتمره التأسيسي في مقهى الرشيد الصيفي بدمشق يوم 6 من هذا الشهر الأخير ، وإن كان قد اصطلح على اعتبار يوم السابع من نيسان موعدا لولادة الحزب ، واللافت هو أن الأرسوزي لم يحضر ذلك المؤتمر بفعل الخلاف على التصورات ما بينه وبين عفلق وصلاح الدين البيطار ، حتى أنه سار في ما بعد ذلك المنعطف نحو إعلان القطيعة مع المسار التنظيمي للحزب ، وآثر الانصراف إلى التنظير لفكرة القومية العربية بعيدا عن ” عقابيل ” السياسة التي تفعل فعل القيد في اليد ، وبعيدا عن ” حبال ” التنظيم التي تعتورها المصالح والتراكمات العصبوية التي استولدتها مراحل التبعية و الاحتلال التي قادت بالضرورة إلى بروز طبقات و شرائح على حساب أخرى .

أرسوز

للأرسوزي مؤلفات عدة جلها في الفلسفة ، وأبرزها  ” الأمة العربية ” و ” رسائل المدنية والثقافة ” و ” متى يكون الحكم ديمقراطيا ” ، وما يسجل له في مسار حياته التي انتهت بدمشق عام 1968 هو أنه نذر تلك الحياة لقضية العروبة والدفاع عنها ، حتى أن المعيار الذي كان يعتمده في الحكم على سلوك الأفراد والجماعات ، الاحزاب والتيارات ضمنا ، هو درجة أمانته للعروبة ووفائه لها ، ولعل قوله في توصيف فلسفته العربية يختصر ذلك ، فهو يقول شارحا لها أن ” مدخلها رحماني ، ومنهجها فني ، وغايتها الذات ، وأنها مستوحاة من الحياة ، إنها فلسفة عربية لأن أصولها قائمة في اللسان العربي ” .

وهيب الغانم:

مفكر قومي وسياسي وطبيب سوري ، ولد في انطاكية العام 1919 ، والده الشيخ صالح الغانم كان مديرا للمدرسة الابتدائية  في بلدته ، الأمر الذي وفر للفتى بيئة مناسبة لبروز قدراته ، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى ظهرت لديه موهبة الخطابة فأضحى في سنواتها الأولى قبلة أنظار الشباب في اللواء ، وعندما تعرف إلى أفكار الأرسوزي اعتنقها ثم راح يعمل على ابداء رأيه فيها بما يتناسب مع كم الثقافة الذي اكتنزه ، جرى اختياره كمندوب عن عرب اللواء وأحد أعضاء وفده إلى قرنايل بلبنان العام 1933 لإعلان قيام ” عصبة العمل القومي ” ، وفي مطلع الأربعينات انتقل إلى دمشق حيث سيصبح بيته الكائن بحي السبكي أول مقر لحزب البعث ، الذي كان في طوره الجنيني آنذاك ، ثم أسسه بمشاركة أستاذه زكي الأرسوزي .

أنطاكيا

كان الغانم أول طبيب سوري يتخرج من الجامعة السورية العام 1943 ، وبعدها انتقل إلى اللاذقية للإقامة ، وممارسة مهنة الطب ، فيها ، وفي العام 1946 زاره ميشيل عفلق و صلاح البيطار بمنزله طلبا لدمج الحزبين في حزب واحد ، الأمر الذي وافق عليه الغانم ليصبح عضوا في المكتب التنفيذي للحزب بعيد انعقاد المؤتمر التأسيسي العام 1947 ، وعندما لاحت بوادر التقارب السوري العراقي لقيام الوحدة العام 1949 كان الغانم هو من كتب مسودة ذلك المشروع .

خاض في العام 1951 معركة تأميم ” الريجي ” التي كانت أول تأميم في سوريا سابقا بسبع سنوات التأميمات التي أجراها جمال عبد الناصر في سوريا غداة قيام الوحدة السورية المصرية العام 1958 .

يقول حنا بطاطو صاحب في كتابه ” فلاحو سوريا ،أبناء وجهائهم الريفيين وسياساتهم ” أن ” الأسد ( يقصد حافظ الأسد ) اتخذه ( أي اتخذ من وهيب الغانم ) معلما ومرشدا ، وهو اعتنق نسخته من العقيدة البعثية ، ولذا كانت سياسات الأسد أقرب للفلاحين منذ شبابه الأول حين أسهم في الإضرابات التي نتج عنها تأميم شركة الريجي عام 1951 وصولا إلى تسلمه السلطة ” .

شلالات أنطاكية

عندما أرسلت الحكومة السورية وفدا إلى العراق للتفاوض حول إمكانية قيام الوحدة بين القطرين كان الغانم بين عداد ذلك الوفد ، وفي الجولة الثانية من جولات التفاوض لاحظ هذا الأخير تلون الألفاظ التي يستخدمها نوري السعيد ، رئيس الوزراء العراقي و رجل السلطة القوي تحت ظل وصي العرش عبد الإله ، حين تحين لحظات تحديد المواقف ، فما كان من الغانم إلا أن قال له ” لماذا تتجاهل الحقائق ، وأنت الذي ليس لك موقف واحد من الوحدة ، وهل كانت دعوتكم للوحدة سنة 1950 وحدوية ؟ ، ثم كيف يمكن للوحدة أن تقوم بين سوريا والعراق والأخير واقع في ظل الاحتلال البريطاني والحكم الملكي ؟ ” ثم تابع ” ما الذي يمنعكم من أن تنسقوا مع العرب لحل مشاكلكم بدلا من التنسيق مع بريطانيا ؟ ” و ” لماذا تنسقون مع حسين حاكم الأردن وشمعون ( يقصد كميل شمعون ) لبنان ، ولا تنسقون مع سوريا ومصر ؟ ” ، وعندها ثارت ثائرة السعيد الذي قال ” و أين هم العرب ؟ ” ، فأجابه الغانم ” معك حق فأنت لا تعيش معهم ” .

سليمان العيسى:

 

من أبرز شعراء العرب في العصر الحديث ، مواليد قرية ” النعيرية ” بغربي انطاكية العام 1921 ، كان والده ” شيخ الكتاب ” الذي يعلم الأطفال في قريته ، شكلت نكسة حزيران 1967 مفترق طرق في حياته الشخصية والشعرية على حد سواء ، ومن الجائز تقسيم شعره إلى مرحلتين تفصل ما بينهما تلك النكسة ، فقبيلها كان شعره يدور حول الوطنية والقومية العربية ، وما بعدها اتجه نحو الكتابة للأطفال في مؤشر يشير إلى أن رهانه الأكبر بات منصبا عليهم بعدما عانى جيله ، والأجيال السابقة ، من النكبات ما يجعل من الرهان عليها رهانا خاسرا ، وعندما سئل لماذا تكتب للصغار أجاب ” لأنهم فرح الحياة ، ومجدها الحقيقي ، لأنهم المستقبل ، لأنهم الشباب الذي سيملأ الساحات غدا أو بعد غد ” .

شارك منذ مطالع الأربعينات في الحلقات التي أفضت الأدبيات التي نوقشت فيها إلى الإعلان عن تأسيس ” حزب البعث العربي ” شهر نيسان من العام 1947 ، لكنه ظل بعيدا عن صراعات المناصب مفضلا أن يمارس دور ” شاحذ الهمم ” و الحث على ” رفع الرايات ” ، والشاهد أنه ظل مؤمنا بذلك الدور حتى جاءت لحظة ” الهزيمة ” عام 1967 التي دفعته ، مع كثيرين ، إلى البحث في أسبابها و دلالاتها ، ثم لم يلبث أن قرر المضي في رهان على أجيال النشء التي خاطبها على أساس يقوم عليه التكوين العقلي والعاطفي وصولا إلى محاولة خلق مخزون للذاكرة الجمعية لدى هؤلاء ، والشاهد هو أن أجيالا كاملة كانت قد نشأت على أشعاره حتى غاصت هذي الأخيرة في ذواكرها .

إطلالة النعيرية على أنطاكيا

شارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب العام 1968 ، ثم غادر إلى اليمن الذي أقام فيه لخمسة عشر عاما تركت بصمات واضحة على شعره اليمني ، حتى عندما عاد العام 1995 إلى دمشقه ظلت رياح اليمن تلاحقه ، وهو ظل على مناجاتها أنى أقام ، ولربما كان ديوانه ” يمانيات ” أهم ما كتبه في اليمن .

ترك سليمان العيسى عشرات المسرحيات الشعرية و الداووين التي كان آخرها ديوان ” قطرات ” الذي صدر العام 2011 ، وفيه تبدى أن حلمه بأمة عربية واحدة لم ينكسر ، بل لا يزال الحلم لديه في جذوته التي كان عليها زمن الخمسينات والستينات ، كأني به يريد القول أن الانكسارات التي تعترض التجربة لا تشكل بالضرورة دلالة على خطأها ، بل لربما كانت حافزا لخوض مطارحات جديدة فيها .

 

خاص للسلطة الرابعة