ثقــافة الهـجــرة
عبد المنعم علي عيسى :
قد يكون الذاهب نحو تناول موضوع غرق المركب اللبناني الذي أقل نحو 160 مهاجراً، جلهم من السوريين ، قبالة شاطئ طرطوس وعلى مقربة من جزيرة أرواد مطلع شهر أيلول المنصرم ، أشبه بمحاولة اللعب بالجمر بأصابع عارية كيفما قلبتها تكوي ، لكننا ، إذ نمضي نحو فعل شبيه بهذا الفعل سابق الذكر ، نجد أن من المفيد التعاطي معها ، أي الحادثة – الفاجعة ، انطلاقا من المناخات التي قادت نحو حدوثها بعيدا عن التفاصيل التي تزاحمت كسيل جارف يرمي بزبده في شتى الاتجاهات ، وكل اتجاه يودي بدوره نحو تشعبات تكاد لا تنتهي .
لعلنا نجازف هنا فنقول أن تلك المناخات التي سادت ، فقادت إلى ما قادت إليه ولربما تقود في المستقبل نحو نظائر له قد تكون أكثر كارثية ، تتمثل في انتشار ” ثقافة الهجرة ” التي سرت كما النار في الهشيم في أوساط السوريين ، خصوصا الشباب منهم في الآونة الأخيرة ، و إذا ما صحت تسمية الفعل ب ” الظاهرة ” فلكل ظاهرة أسباب و دوافع بعضها ذاتي و الآخر موضوعي ، ولها أيضا عوامل محفزة على استمرارها ، وعوامل أخرى قادرة على إجبارها الدخول في مرحلة الاضمحلال وصولا إلى التلاشي والزوال ، وفي مناقشة الأمر من هذه الناحية يمكن القول أن الهجرة ، كظاهرة ، كانت ملازمة لظهور التجمعات البشرية التي كانت تعمد إلى الرحيل طلبا لتحسين مستوى عيشها أحيانا ، أو لظروف تختص بأمنها واستقرارها في أحايين أخرى ، لكن هذا المفهوم تغير مع ظهور حالة الكينونة التي يمثلها قيام الدولة – الأمة التي تشكلت من جماعات تتشابه باللغة والثقافة والعادات والتقاليد وصولا إلى المصالح المشتركة التي فرضها رباعي العوامل آنفة الذكر ، والفعل ، أي تغير مفهوم الهجرة زمن الدولة ، بات حالة فردية أو هو في أوسع مدياته يطول جماعات صغيرة تبحث عن فرص عمل في مجتمعات قادرة على خلقها في وقت ترى فيه أن مجتمعاتها التي تعيش فيها غير قادرة على تأمين تلك الفرص ، والشاهد هو أن بعض الحالات سابقة الذكر كانت تمتلك كفاءة أو تفوقا في مجال ما من الصعب أن تجد لها متنفسا أو فرصة جيدة في بلدانها تبعا لدرجة التطور الذي تمر به هذي الأخيرة حيث تصبح هكذا اختصاصات حالة ” غير مطلوبة ” تبعا لدرجة التطور آنفة الذكر ، ثم أن بعضها يندرج في سياق انسداد الآفاق أمام الفرد ، أو الجماعة الصغيرة ، بشكل يدفع إلى تجريب ” حظوظه ” في فضاءات أخرى تختلف في تركيبتها مع تلك التي خرج منها مما يعزز الفرص بالنجاح أقله وفق الرؤيا التي يتبناها ذلك الفرد أو تلك الجماعة .
في غضون السنوات الثلاث السابقة التي شهدت تضاعيف متقدمة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد راحت الأفكار والحلول المجتمعية للتصدي لها تسير في اتجاه متسارع نحو تبني فكرة الهجرة حتى غدت تلك الفكرة ” ثقافة ” عامة تجرف في سياقاتها الفرد الذي بات مؤمنا بها ، وهذي لوحدها مشكلة كبرى لا يمكن إيجاد حلول لها إلا عبر سياق ” تفكيكي ” يسير على مراحل ، ويضع في اعتباراته العوامل الموضوعية التي قادت إليها وصولا إلى العامل الذاتي الذي يجيئ هنا كانعكاس لتلك العوامل بشكل مباشر .
قد يكون من الصعب الآن الحديث عن حلول مقترحة ، لأن الفعل يحتاج عمليا إلى تهيئة شروط حياتية و معيشية مختلفة عن السائدة الآن ، ومعها توفير فرص العمل لشباب راح يتململ بعد أن ضاقت السبل لديه في مساره نحوها ، والمؤكد هو أن ظروف التهيئة والتوفير على حد سواء ، تبدو غير سانحة للوصول إلى حال يجد فيها ذينك الفعلين حلولا لهما ، ولربما كان ذلك مدعاة أكبر لطرح السؤال عينه ، الملح أعلاه ، : ما الحل إذا ؟ وهل من المقبول أن نبقى عاجزين عن القيام بأي فعل في وقت نرى فيه ” قوارب الموت ” تتدافع حاملة معها ” جينات السورنة ” التي تتلاطمها الأمواج فتفككها ومعها ” الكروموزومات ” الحاملة لها بطريقة أشبه بالتحطيم الذري لتلك الخلايا الذي قد يدفع نحو مآلات خطرة من نوع خلل في ” الشيفرة ” قد يكون ذي عواقب غير محمودة ؟ .
لا شك بأن سيادة ” ثقافة الهجرة ” التي أضحت تشكل مناخا عاما في البلاد كانت لها ظروفها التي أدت إلى سيادتها آنفة الذكر ، ثم أن هناك العديد من العوامل المحفزة التي رفعت من وتيرة انتشارها ، لكن لا شك أيضا بأنها نشأت نتيجة لأثر هو أقرب ما يكون لتحول في الفكر الجمعي راحت تستثمر فيه ” نويات ” ذات مرمى ربحي ، وهذي الأخيرة أخذت على عاتقها ” ذرو نار ” الآلام في شتى الاتجاهات ، والشاهد هو أن الفعل لم يكن بحاجة للمزيد من الجهد قياسا إلى حال اليأس التي وصلها الشباب السوري الذي راحت أمانيه تتلاشى أو هي تتحطم على صخرة واقع بدا ، بالنسبة إليه ، غير قابل للتغيير ، و عليه فقد راحت مناظيره ترقب المدى البعيد حتى ولو كان دونه الموت .
خاص للسلطة الرابعة