جديد 4E

  عندما انحنى ” الشيخ ” .. مرتين

عبد المنعم علي عيسى :

في صبيحة 5 تشرين أول 1973 حضر قائد القوات الخاصة إلى موقع تجمعت فيه الكتيبة 82 مهام خاصة ، وعلى الفور قام بإعطاء ” أمر قتال ” كان من الواضح ، للجنود ، أنه من النوع غير العادي ، بمعنى أنه لا يشبه ذلك النوع الذي كان يوزع عليهم طيلة السنوات الثلاث الماضية ، وهي المدة التي استغرقتها التدريبات التي كانوا يجرونها في ظروف  تحاكي ظروف المهمة التي يعملون على إنجازها ، وبعيد انتهاء المراسم التي جرت على عجل ، اقترب المجند ” عبدالإله المهندس ” من إذن رفيقه هامسا بها ” إذاً حان وقت الحصاد ”  .

لم ينم الجنود تلك الليلة ، فكيف إذا بالضباط الذين تقع على عاتقهم مهمة حمل الراية إلى المكان الذي يجب أن تصل إليه ، وكيف إذا ما كانت التقديرات تقول أن المهمة  ” مستحيلة ” من الناحيتين النظرية والعسكرية كما أجمعت الدراسات التي تناولتها فيما بعد .

كان الجيش الإسرائيلي قد أنشأ على قمة جبل الشيخ التي ترتفع لـ 2224 م ، بعيد احتلالها في حرب حزيران 1967 ، مرصداً محصناً بدا من الناحية النظرية أن من المستحيل اقتحامه ، وهو مبني من حجارة البازلت التي تتواجد بكثرة على سفوح الشيخ ، فيما يصل سوره الخارجي لعرض 6 أمتار مدعمة بجدار اسمنتي بعرض 3 أمتار ، والبناء يتخذ شكل الهرم المقلوب بحيث يكون طابقه الأعلى هو الأعرض وصولا إلى طابقه الثالث الذي يصبح الأقل اتساعا ، ولا مجال للدخول إليه سوى من باب حديدي وحيد ، يقع في الغرب ، وسماكته تصل إلى أكثر قليلا من متر .

كانت التدريبات التي يجريها الجنود تحاكي اقتحاما حقيقيا لمجسمات شبيهة بتلك التي سيواجهونها في اليوم الموعود ، حتى أن كثيراً منها كان يجري بالذخيرة الحية في محاولة لوضع الجنود في حالة هي أقرب لتلك التي سيجدون أنفسهم فيها في يومهم سابق الذكر ، ولعل المدة التي طالت كانت قد استولدت أحاسيسا لديهم هي مزيج من الملل والاستعجال ، وأسئلة من نوع : إلى متى ؟ ثم ألا يكفي كل هذا ؟ وفي حديث صحفي جرى مع النقيب محمد الخير بعيد انتهاء الحرب ذكر تلك التجربة بقوله ” عشنا تفاصيل الموقع  بدقة حتى كنا نراه في نومنا ” ، باختصار كان الكل يتحين اللحظة ، وينتظر ساعة الصفر .

أقلعت طائرات الهليوكبتر التي تقل جنود المهام الخاصة في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت 6 تشرين أول 1973 ، كان المشهد مهيبا ، أبواب الطائرات مفتوحة ، و أسلحة الرجال مشرعة لكأنما ملت وضعية ” الإرتاج ” ، وفي الغضون كان الجنود المتمركزون على الأرض يرفعون قبعاتهم رمزا للتحية لأولئك العابرين من فوقهم في السماء ، فيما صيحات ” الله أكبر ” كانت تتعالى لتتردد أصداؤها ما بين حناجر الرجال وببن شعاب الجبال ووديانها ، كان كل شيء  يشي بأن ملحمة ، كتلك التي ترد في الحكايا والأساطير ، باتت على مرمى حجر .

كانت التقديرات ، وفق واضعي الخطة ، تقول أن النجاح سيكون مرهونا بعاملين اثنين أولاهما الكفاءة والعزيمة ، وثانيهما هو الوقت الذي كان يجب أن يحسب بالدقائق والثواني ، فكل ثانية تمر دون أن ينجز شيء على الأرض تعني أن ” الخطة ” في خطر ، وفي الأولى ، أي الكفاءة والعزيمة ، كانت تلك التقديرات تجزم بأن الكل كان متخما بهما ، فالجندي الذي كان يحمل على ظهره كيسا يزن 30 كغ ، كان يفضل أن تكون أسلحة و ذخائر على أن تكون طعاما كما ذكر الملازم نايف العاقل ، قائد إحدى مجموعات الاقتحام في إحدى مقابلاته ، أما الثانية ، أي الوقت ، فقد ظلت حبيسة الأذهان التي أيقنت أهميتها ، وكان الرهان بأن استثمارها سيكون في حدوده المثلى .

البطل نايف العاقل

في سياق التقديرات التي عرضت لها الخطة كان الوقت المقدر لإنجاز المهمة هو ساعتان ، لكن وصول الرجال إلى مشارف المرصد لم يستغرق أكثر من ساعة ونصف ، وفي الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهيرة كانت السرية الأولى تدق أبواب ” القلعة الحصينة ” ، لتبدأ ملحمة تحتاج كل ثانية فيها لسيل من الكلمات إذا ما كان الفعل يهدف إلى الإلمام بتلك اللحظات الرهيبة التي وصلت إلى ذروتها الملحمية بعد مرور ما يزيد قليلا عن الثلاثين دقيقة على بدء القتال ، عندما بات السلاح عبئا ، أو بمعنى آخر عندما أضحت المسافات القصيرة تحتم رميه جانبا ، لتلتحم الأيدي بالأيدي ويختلط اللحم البشري برائحة البارود و فوهات البنادق ، في حينها كانت الصور التي تراود المخيلة ، مخيلة الجنود ، تثقل على الأيادي التي بات فعلها مسؤولا عن انبعاث الأمة من جديد ، ومحددا في الآن ذاته لمصير ذلك الانبعاث و مآلاته .

مضت الثواني ثقيلة، كان التنسيق فيها مذهلا، لكن أهم ما سجلته تلك الثواني هو أن كل فرد في مجموعة الاقتحام كان يظن أن مصير الحرب ، وكذا النصر ، بات بين يديه وليس بين يدي أحد آخر .

كانت خطة الهجوم المقررة هو أن يحدث الفعل على شكل موجات متلاحقة ، حتى إذا تعثرت الأولى أمدتها الثانية بزخم يبقي سعار نار المهاجمين متقدا لا خبو فيه ، وما بين تقدم الموجة الأولى والثانية اندفع المجند ” علي أحمد العلي ” نحو العلم الإسرائيلي يريد تمزيقه ، لكن رشقة رشاش اسرائيلي عاجلته فأردته شهيدا ، مما أثار عناصر المجموعتان المهاجمتان ، وفي تلك اللحظات أشار النقيب محمد الخير إلى جنوده بالتقدم وهو على رأسهم ، ولعل المجند ” عبد الإله المهندس ” كان يستشعر ما سيجري في غضون اللحظات القليلة التي ستعقب إشارة التقدم التي أطلقها قائد وحدته ، فتموضع خلفه بعد أن أيقن أن هذا الأخير ماض لأجل المهمة التي استشهد دونها علي أحمد العلي ، وعندما اندفع النقيب الخير نحو سارية العلم وجه أحد الجنود الإسرائيليين فوهة بندقيته إليه فكانت قنبلة المهندس أسرع من الرصاص ، رمق الخير المهندس بنظرة شكر سريعة ثم اندفع إلى الدرج المودي نحو سارية العلم ، وعندما أمسك بهذا الأخير أخذ يلوح به لجنوده الذين تعالت صيحاتهم ” الله أكبر .. الله أكبر ” .

لم تكد عقارب الساعة تشير إلى الرابعة والنصف حتى كان جبل الشيخ قد انحنى ترحابا، وإجلالاً، لأولئك الرجال الذين أكدوا أنه عربي، وثلجه عربي، وهواه عربي، ليجد ” الشيخ ” نفسه مضطرا للقيام بالفعل نفسه، بعد تسع وأربعين عاما ناقصة شهراً، يوم رحل محمد الخير .

خاص للسلطة الرابعة