جديد 4E

الرقة .. هبة الفرات .. ومصيف الرشيد

 

عبد المنعم علي عيسى :

من الصعب الركون إلى الوثائق التي تقول أن تاريخ إنشائها يعود إلى العام 244 ق .م ، فالكثير من تلالها لم يحظ حتى الآن بالاهتمام الكافي الذي من شأنه تغيير القول السابق ، لكن الموثق بين أيدينا ، حتى الآن ، يقول أن اسمها الذي عرفت به في غضون هذا التاريخ الأخير هو ” كالينكوس ” نسبة إلى مؤسسها سلوقس الأول الذي كان يعرف أيضا بذلك الاسم ، ثم تعاقب عليها أقوام عدة كان أبرزهم البيزنطيين الذين جعلوا منها حاضرة في زمنهم ، وعندما فتحها العرب سنة 639 م أطلقوا عليها اسم الرقة التي تعني بلغتهم ” الصخرة المسطحة ” ، ومن الواضح أن تلك التسمية جاءت نتيجة لحظ الجغرافيا الحاكمة التي تمثلت بقيام المدينة على طبقات رسوبية اتكأت على الضفة الشمالية لنهر الفرات .

عندما تولى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الحكم ، أضحت المدينة على موعد مع الإشعاع ، وفي ذاك كان المنصور قد قرر بناء عاصمة صيفية للخلافة بالقرب من المدينة القديمة ، وأطلق عليها اسم ” الرافقة ” التي سرعان ما تماهت مع الأولى في تأكيد لذلك الموعد ، ليتبين ، زمن هارون الرشيد ، أن الأخير لم يعد كافيا ، واللازم هو أن تصبح المدينة على موعد مع ” الألق ” الذي تصله المدن في ذروة ازدهارها وفقا لتوصيف ابن خلدون ، وما بين عامي 796 – 808 م أصبحت الرقة العاصمة الثانية لدولة الرشيد التي اتسعت بدرجة دفعت بهذا الأخيرة لمخاطبة غيمة في السماء قائلا لها : ” اذهبي أنى شئت ، فلسوف يأتيني خراجك حيث تهطلين ” ، فيما تشير العديد من كتب التاريخ إلى أن موكب الرشيد الذي كان يتجه صيفا من بغداد إلى الرقة لم ” تكن تراه الشمس ” كناية عن كثافة الأشجار التي كانت تظلل ذلك الطريق على امتداده ، وعندما سقطت العاصمة الأولى ، بغداد ، على يد المغول 1258 م ، لحقت بها العاصمة الثانية ، الرقة ، بعد مضي وقت قصير على ذلك التاريخ ، والفعل قاد من حيث النتيجة إلى تدمير العاصمتين حيث ستشهد الرقة دمارا لم تعرفه من قبل ، وإن كانت ستعرفه من بعد على يد تنظيم ” داعش ” الذي غزاها العام 2014 ، ثم على يد ” التحالف الدولي ” المزعوم الذي أعادها قرونا للوراء العام 2015 .

عبد السلام العجيلي

مواليد الرقة 1918 ، طبيب وكاتب قصة قصيرة و رواية ، كما كانت له مساهمة في الشعر محدودة وهي اقتصرت على ديوان واحد ، وقد قيل عنه أنه قرض الشعر بسن مبكرة وهو لا بتجاوز عمر الاثني عشر عاما ، أطلق عليه لقب ” أيقونة الرقة ” تعبيرا عن إنسانيته في ممارسة مهنة الطب ، وفي أواخر الثلاثينات من القرن الماضي بدأت مقذوفاته الأدبية تغرق ” السوق ” بشتى أنواعها ، وهي لم تتوقف إلا قبيل وفاته العام 2006 بفترة قصيرة ، فيما الحصيلة النهائية كانت قد قاربت الأربعين كتابا في مجالات الأدب المتنوعة .

من بين كل تلك الآداب أبدع العجيلي بالقصة القصيرة التي أضحى من روداها ، جنبا إلى جنب زكريا تامر وعادل أبو شنب ، وعبر السياقات التي اختارها هؤلاء لسرد قصصهم كانوا قد نجحوا في خلق كيان أدبي مستقل استطاع أن يحقق حضورا منافسا لأجناس أدبية كانت تتمتع ب ” سطوة ” ملحوظة ، وفي سياق تمرسه بذلك الفن كان قد استحق لقب ” أهم حكواتي سوري ” ، فيما قال أحد نقاده الدارسين لأدبه ” إذا ما كان لمصر حكواتي هو نجيب محفوظ فإن حكواتي سوريا هو عبد السلام العجيلي ” ، والصفة إياها جاءت بالتأكيد عبر لحظ التصاق أدب العجيلي بالبساطة ورصد هموم الناس العاديين ، فتوصيف ” الحكواتي ” هنا يأتي ليغوص في الذات المجتمعية ومعها الموروث الشعبي الذي تتناقله الأجيال بعد أن يصبح منغرسا بين شغاف القلب وخلجات الروح ، وهذا لا يتأتى إلا لأولئك الذين يعيشون حالة الانتماء بكل أبعادها ، والمؤكد أن العجيلي كان منتميا بدرجة جعلته يعيش قضايا وطنه و أمته بكل تفاصيلها ، ولا أدل على ذلك من أنه عشية سماعه بسعي فوزي القاوقجي لتأسيس ” جيش الإنقاذ ” مطلع العام 1948 ، كان قد رمى بكل شيء وراءه باحثا عن القاوقجي الذي قال له عندما التقاه ” نقسم بأن فلسطين ستظل عربية ولو أطبقت عليها كل شعوب الأرض ” ، وهو أرخ لتلك التجربة في روايته ” أزاهير تشرين المدماة ” التي صدرت العام 1977 ، والتي خلص من خلالها إلى حقيقة مرة مفادها أن الحماس وحده لا يكفي ، وأن مصائر العرب لم تعد في أيديهم ، فكان القرار بالعودة إلى الكتابة ، سبيلا إلى استنهاض الشارع الذي لم تكن درجة نهوضه بدرجة كافية لمنع قيام الكيان الذي سيسمى ” اسرائيل ” .

كانت مجموعته القصصية ” بنت الساحرة ” العام 1948 قد شكلت منعطفا هاما في تاريخ القصة العربية برمتها ، والمؤكد أن العجيلي كان قد جهد ، ما بعد تلك المحطة ، لأن يكون ” مؤرخا أدبيا ” الأمر الذي سيظهر عنده في روايات عدة ، مثل ” قلوب على الأسلاك ” العام 1974 التي تناول فيها خذلان الأنظمة العربية لقضية الوحدة المنشودة بنتيجة غياب الحرية والديمقراطية ، و ” المغمورون ” 1975 التي رصد فيها التحولات الاجتماعية والسياسية ، ومعها التحرر الاجتماعي الحاصل ، ما بعد بناء سد الفرات .

التراث الشعبي – الموليا – محمود الذخيرة

تعرف ” الموليا ” من الناحية النقدية بأنها البرزخ الذي يفصل ما بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح ، وهذا الفن ، الذي استند أساسا على الموروث الشعبي ، كان قد شهد تطورا واسعا على امتداد الأجيال ليصبح راسما للسمات العامة للمجتمعات التي عرفته ، وهي في غالبيتها ذات بيئة فراتية بالدرجة الأولى ، وعلى الرغم من أن الفعل كان قد شهد توسعا نحو بيئات أخرى تتقاطع معها في الكثير من الوسوم ، إلا أن مركزه ظل مقيما في الرقة لا يغادرها .

شكلت تجربة محمود الذخيرة ، مواليد الرقة العام 1947 ، منعطفا هاما في مسيرة ” الموليا ” ، خصوصا بعدما اهتدى إلى الأداة القادرة على إيصالها بأقرب السبل إلى شارعها العريض ، جاء ذلك بعد تعاونه مع ” فرقة الرقة للفنون الشعبية ” التي كانت جل أعمالها من أشعاره ، كان الذخيرة ماهرا في استخدامه لكلمات ” عامية ” مفرطة ، والفعل إذا ما كان يحتاج غالبا لشرح مفردات لكي يصل للمتابع الذي لا ينتمي إلى ذلك الموروث ، إلا أن الاستخدام كان عاملا محفزا لمزيد من البحث عن المعاني التي كانت تفرض حالة التناغم القائمة ما بين الكلمة واللحن وأداء الراقصين ، وعندما كتب مسرحيته الشهيرة ” قصر البنات ” التي لحنها الموسيقار اللبناني زكي ناصيف كان مشروع الذخيرة قد وصل إلى ذروة شاهقة في سياقه الماضي نحو مرماه البعيد ، والجدير ذكره في هذا السياق هو أن المسرحية كانت قد عرضت على مسارح باريس العام 1986  ونالت ، عن عرضها ذاك ، جائزة ” الوشاح الذهبي ” في مهرجان شاركت فيه 76 فرقة من شتى بقاع المعمورة .

 

منير الحافظ

باحث موسوعي ، مواليد الرقة العام 1959 ، درس الفلسفة في جامعة دمشق فكان ذلك سببا في طغيانها على كتاباته التي يمكن وضعها في مرحلتين ، أولاهما قصيرة وهي تمتد من منتصف التسعينات حتى نهاية الألفية المنصرمة ، وفيها كان التوجه نحو المسرح الذي كتب له ما يقارب ال 20 عملا جلها كانت تعرض لقضايا تغوص عميقا في تركيبة المجتمع السوري ، مثل مسرحية ” زائر من الأثير ” العام 1997 التي تتناول موضوع ” التقمص ” كما ترد في الموروث المتواتر بين الأجيال ، لكن دون أن يقحم الكاتب نفسه طرفا فيها ، و ” الممسوس ” العام 2001 التي تعالج تعاطي المجتمع مع مسألة ” الجن ”  ، وثانيهما البادئة منذ العام 2001 والمستمرة حتى اليوم ، وفيها كان التوجه نحو البحث والدراسة ، حيث سيصدر في هذا العام الأخير ” إشراقات في فلسفة الفن والجمال ” الذي يبحث في جمالية الفن والرسوم والأدب والأساطير ، وبعدها بنحو عام سيصدر كتابه الثاني ” بؤس العولمة ” التي يحلو للحافظ تسميتها ب ” الشوملة ” ، وهو بحث في فلسفة العولمة الحديثة التي يراها أقرب ما تكون إلى ” كوننة العالم ” انطلاقا من جعل السوق الحرة أساسا لبناء العالم الجديد ، ثم أصدر العام 2006 كتابه ” الجنسانية ” الذي يحكي عن النمط الجنسي عند الكائنات الحية ، وكيف نشأ الجنس في العهد ” الأمومي ” ، وكيف أدى ظهور ” الآلة ” إلى الانقلاب نحو العهد ” الأبوي ” ، ليتابع الحافظ سياقه الذي بدأه في ” تجليات التنوير ” الذي يحكي عن نشوء الوعي بدءا من اكتشاف النار الذي قاد نحو مراحل أخرى كانت خاتمتها بدء مرحلة الوعي التنويري الذي جاء نتاجا للوعي الفني ، وفي السياق يضع الحافظ الفكر الصوفي ” العرفاني ” كمرحلة متقدمة من مراحل التنوير بوصفه نمطا فكريا وثقافيا ذا خصوصية .

يمكن القول أن الحافظ وصل إلى الذروة التي كان يريد الوصول إليها في مؤلفه ” هدم العقل المفارق ” الصادر عام 2019 ، وفيه يعرف العقل بأنه الوعي عبر التجربة ، حيث كانت محاولات الإنسان الجارية في سياق تطوره تتمحور حول عقلنة الأشياء والمفاهيم والأفكار والآراء ، وفي محطة متقدمة من هذا النمط نفسه سيصدر له ” عصاب الحرية ” العام 2022 ، الذي يتحدث عن مسألة الحرية في الدين والطبقات والمجتمع ، وفيه يرى أن الحرية هي رؤية افتراضية لدى من يشتغلون على فلسفة الحرية ، وهي ، أي الحرية ، غير موجودة واقعيا ، فالفرد ليس حرا في تفكيره أو سلوكه لأنه مرتهن إلى محكوميات و مشروطيات لا تسمح له بالانفتاح على عالم حر ، والمعوقات دون ذلك عديدة لكن أبرزها منظومة دينية سياسية ثقافية مجتمعية شديدة التعقيد ، فيما تمرحلها البطيء هو الذي يفسر البطء في حركة مجتمعاتنا المثقلة بقيود تلك المنظومة .