جديد 4E

  أدباء ” شوام ” هاموا بشامهم

الرباعي نزار .. وزكريا .. وناديا .. وخيري .. رأس حربة لأجيال آمنت بأن الشام ليست وطنا تسكنه .. بل يسكنها في حلها و ترحالها .. وحزنها و فرحها .. إلى أن يهرم الدهر

 

السلطة الرابعة – عبد المنعم علي عيسى :

ما بين عشرينات و أربعينات القرن الماضي قذفت الشام – شأنها في ذلك شأن باقي شقيقاتها السوريات و إن كان الفعل عندها أوسع مدى و أغنى تجربة لاعتبارات تتعلق بتجذر ” المدنية ” التي لم تنقطع جذورها في الزمن العثماني كما حصل مع باقي الشقيقات لاعتبارات عدة – بجيل من الرواد الذين أثروا الحياة الثقافية في البلاد ، والشاهد هو أن ذلك الجيل ظل كما ” المنارة ” التي يهتدي بها اللاحقون به ، وإن كان يؤخذ على فعل من هذا النوع أنه غالبا ما يؤدي إلى التقوقع ضمن قوالب جاهزة يصعب الخروج منها ، ومن حيث النتيجة بصبح الفعل كما ” المكابح ” في طريق استيلاد تجارب أخرى تختلف في مضامينها وتذهب نحو مطارح تقتضيها المتغيرات الحاصلة بفعل دوران عجلة الزمن .

نزار قباني

في العام 1923 لم يكن حي ” مئذنة الشحم ” الشامي العريق يعلم بأنه سيكون على موعد مع حدث سيكون له دور كبير في الانقلاب الحاصل على عمودية الشعر ،

بل وعلى أغراضه أيضا جنبا إلى جنب الاختلاف في الأدوات المستخدمة في ذلك كله ، ففيه ، أي في هذا العام الأخير ، سيشهد الحي ولادة نزار قباني الذي كانت مسيرة حياته أشبه بمن يمسك معولا في إحدى يديه يهدم فيه ما يراه ” بنى ” متهالكة ، ويمسك بالأخرى ” طينا وطوبا ” يبني فيهما على أنقاض ما تهدم ، كانت شاعرية نزار ، التي يصح وصفها مذهبا ، كما ” الفتح ” في لغة لطالما أثقلت عليها صنوف الانغلاق والتزمت بفعل عوامل ليست ببعيدة عن درجة تطور المجتمعات التي تتكلمها ، والمذهب ، الذي جاء فريدا ، كان يقوم على المزج بين اللغة الأكاديمية الرصينة وبين العامية سهلة الوصول إلى أعماق النفس التي ترتبط معها بأسلاك شديدة الناقلية للحرارة ، وعبر ذاك جاءت ” النزارية ” جسر عبور ما بين القديم وبين الحداثة التي نادت بها ” مجلة شعر ” التي انطلقت مطلع الخمسينات ، ولربما كان هذا هو ما يفسر الانتشار الكبير لشعره الذي جاب المسافة الفاصلة ما بين المحيط والخليج ، فالتدرج يشكل بالتأكيد طريقة صعود آمنة و مستساغة ، بعكس ” القفز بالزانة ” ذي المخاطر العديدة والذي يصعب التكهن بنتائجه عند غير المتدربين .

تعددت مشاغل نزار ما بين السياسة والمرأة والشعر واللغة، وكلها كانت مترابطة لديه بوثاق لا ينفصل ، لكن ” دِمَشْقَهُ ” ظلت الوعاء الذي ينهل منه فيغذي روحه التي ظلت متساكنة معها برغم حلول الجسد في لندن التي عاش فيها سنواته الأخيرة .

زكريا تامر

أثار زكريا تامر ، المولود بحي البحصة الدمشقي 1931 ، عبر قصصه القصيرة التي أضحى أبرز كتابها العرب الكثير من هموم المجتمع

، وفي مقدمتها قضية الفرد المهزوم الذي طاولته رياح الخارج التي كانت شديدة الوطأة على ” خيمته ” المليئة بالشقوق ، وفي مجموعته ” دمشق الحرائق ” ، التي مثلت ذروة انتاجه ،  ذهب نحو غوص بعيد في أعماق الإنسان الدمشقي كفعل أراد منه رصد أنفاس مدينته التي عشقها والتي قال عنها ” في دمشق كنت أكتب وأنا أسير في الشوارع ، وأنا جالس في مقهى أو مطعم ، فحين أكون محاطا بضجيج الناس تزداد قدرتي على التركيز ، وأستطيع الكتابة بسرعة وسهولة ، حيث يتحول ذلك الضجيج إلى ما يشبه الموسيقى التصويرية المرافقة لأحداث فيلم من الأفلام ” ، و لربما كان طباعه التي تميز بها ، كالعناد والسخرية ، هي التي قادته نحو رفض الواقع الذي اختار مواجهته عبر الدمج ما بين العقلاني و نقيضه .

ناديا خوست

كانت ناديا خوست ، المولودة بدمشق سنة 1935 ، نتاجا لمرحلة لا تختلف كثيرا عن المرحلة التي جاءت بنزار و تامر ، وهي وإن كانت قد اختارت أدواتها في رسم معالم دمشق ، كما انطبعت في الذاكرتين الجمعية والفردية ،

بعيدا عن أدوات الأخيرين ، إلا أن الاختيار ، الذي امتلكت خوست ناصيته بشكل حرفي ، لم يكن أقل أهمية في ما أفضت إليه بالنسبة لجيل كان نتاجا لتشرب الثقافة التي تعنى بالانتماء والهوية بمفهوميها الوطني والقومي .

كانت خوست مسكونة هي الأخرى بالانتماء ، و جل ما ترمي إليها قصصها ، هي نشر ” العنبر ” الحضاري الذي ما انفك يلازم رائحة دمشق منذ آلاف السنين حتى وهي ترزح تحت سنابك الغزاة ، وفي تعبيرها عن جدلية تلك العلاقة ستقول خوست في حوار أجرته معها مجلة ” جهينة ” بأن ” الكاتب من دون مكان لا وجود له ، لأنه يأخذ دائما من المكان نكهته ، تاريخه ، عراقته ، وأنا كنت محظوظة أني ولدت في مكان له عمقه التاريخي ” .

خيري الذهبي

لم تقتصر الأدوات عند خيري الذهبي ، المولود بدمشق 1946 ، على تلك التي استخدمها أسلافه على الرغم من أنه حمل لقب ” روائي دمشق ” إلى اللحظة التي أغمض فيها عينيه بعيدا عنها ،

وعلى الرغم من أن أداته الأساسية كانت هي الرواية التي حاول من خلالها رسم صورة بانورامية لسوربا بكل تحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية ، فالأدوات عنده تعددت لنراه يحمل ألقاباً عدة مثل : كاتب ، مفكر ، مؤرخ ، سيناريست ، لكنها كلها كانت في خدمة مشروع واحد هو سوريا التي رأى في ” الديمقراطية ” و ” ترسيخ المواطنة ” سبيلان لا غنى عنهما في طريق الخلاص ، وعندما أحس بأن ” قطراته ” التي لم تنقطع عاجزة عن ” الحفر ” في الصخر غادر إلى منفاه الاختياري ، باريس ، ومن هناك راح يصور دمشق ك ” جنة منهوبة ” لكنه ظل مؤمنا بأنها عصية على الآخرين ، وسيكتب في وصيته ” إن رأيتم عصفوراً صغيراً فوق فسيفساء الجنة في واجهة المعبد الأموي فابتسموا واسقوني كأس ماء بارد ، أو اطعموني حبة تين انبلجت … فهذا يكفيني بعد أن عشتُ عمري في حب بلادي .. و حبكم ” .

الشام تسكن القلوب

هذا الرباعي لم يكن سوى ” رأس حربة ” لأجيال آمنت بأن الشام ليست وطنا تسكنه ، بل يسكنها في حلها و ترحالها ، في حزنها و فرحها ، وفي كبواتها و انتصاراتها ، والأثر عينه يظل يبين بوضوح في مقبل الأجيال ، وهو سيظل ، كما يبدو ، كذلك إلى أن يهرم الدهر أو يشيخ .