عبد المنعم علي عيسى :
تحتوي المراجع العديد من الروايات حول أصل التسمية ، لكن الأشهر منها هو أنها كانت مهداً لمعركة ” سلاميس” التي جرت ما بين الفرس واليونانيين ، وانتهت بانتصار الأخيرين في العهد المسمى باسمهم ، وفيما بعد سيطلق المنتصرون اسم سلاميس على تلك المنطقة التي تحول اسمها ، بحسب الرواية السابقة ، إلى ” سلمية ” ، ولربما كان للإسم تحولات سبقت ذلك منذ دخول المنطقة مرحلة الفتوح الإسلامية في الثلث الثاني من القرن السابع الميلادي ، لكنها كلها كانت قريبة من اللفظ المستخدم اليوم .
هذا ما يقوله التاريخ ، الذي يقول أيضا أن مكتشفاتها الأثرية تعود إلى 3000 عام قبل الميلاد ، حيث لا تزال ” المغر ” التي سكنها الإنسان في ذلك العهد ماثلة في قرى مجاورة لمركز المدينة مثل ” الكافات ” و ” تل الدرة ” ، أما ما تقوله الجغرافيا فهو كثير ، وأهمه أن حقائق الأخيرة جعلتها بوضع أشبه بـ ” وصلة T ” على الحدود الفاصلة ما بين الصحراء والمعمورة ، حيث أتاحت الوضعية السابقة للمدينة أن تلعب دورا هو أشبه بـ ” فاصل واصل ” ما بين بادية يتكئ ” الدور ” عليها بأحد جنباته ، وبين مدينة يحرص الأخير على أن يظل ” حبل المشيمة ” متصلا بها لاعتبارات عدة تتعلق ، في أبرزها ، بالدور الذي راح نسيج البلدة الديموغرافي يختطه لنفسه ، بناء على قراءة الجغرافيا ، فيعمل على إبقاء المدينة ” معبارا ” للقوافل التجارية ، بكل ما للفعل من تداعيات اقتصادية وثقافية عبر ما يتيحه هذا الأخير من احتكاك بين القاطنين والعابرين .
من المؤكد أن دخول المذهب الإسماعيلي للمدينة ، الذي حصل زمن التشظي العباسي ، كان قد فعل فعله في شحذ الروح وفضاءات الذهن لدى المريدين الذين أضحوا أغلبية بعد تحول المدينة إلى مركز للدعوة لا يدانيه أي مركز آخر ، فالفعل ، أي دخول المذهب الإسماعيلي ، كان أشبه بالشرارة التي اندلعت في ذات تمتلك بالأصل إرثا حضاريا تختزنه في ذاتها الجماعية التي كانت قد دخلت في طور ” الشرنقة ” قبل حصوله ، والجدير ذكره في هذا السياق هو أن المذهب كان أقرب إلى الفلسفة والفكر منه إلى أي فرع من الأفرع التي تشظت عن ” الإثني عشرية ” التي أسسها عبدالله بن ميمون القداح ، والقرب إياه كان قد شكل لدى أتباعه ، عبر تمرحلاته ، هوية قلقة قادت بالضرورة نحو مجتمع ” صاخب ” ، وفي ذاك تكمن ” القطبة المخفية ” في نسيج ما انفك يقذف في محيطه العديد من الظواهر ، إذ لطالما كان من الثابت أن الحياة الهادئة لا تستولد الأفكار العظيمة ، ووحدها الأزمات ، ومحاولة إثبات الذات في خضمها ، هي التي تقتلع ” النسج الميتة ” من جذورها ، وفي الآن ذاته تعجل من نمو أنماط جديدة من التفكير .
مع مطالع عصر التنوير ، الذي استولده الوجود الفرنسي ، وكذا الصراع معه ، راحت السلمية تقذف بمكنوناتها ، ومحاراتها ، في شتى الإتجاهات ، ليشكل سياق القذف آنف الذكر لوحة تظهر تضاربا فيما بين الخطوط الراسمة لها ، لكنها في المجمل توحي بأن تلك الخطوط ترمي أصلا إلى إظهار ذلك التضارب تعبيرا عن الحيوية التي يستولدها التنوع والزخم ، ومن خلفهما الإرث الذي راحت أحشاؤه ” تنبش ” من قبل ” الحفارين ” .
ستشكل ظاهرة محمد الماغوط أولى المقذوفات ، ولربما أهمها ، فيما التحولات التي ستمر بها تجربته ستشير إلى ” انكسارية ” قاد إليها اصطدام الحلم بالواقع ، فالرجل الذي تبنى أفكار ” القومية السورية ” في مطلع شبابه بعد حوارات جرت مع أدونيس عندما جمعهما السجن ، سيعزف عنها ليذهب باتجاه ” البعث ” ، ثم ليذهب ، بعد فترة قصيرة ، نحو التخلي عن فكر الأحزاب مفسحا بذلك المجال أمام تجربته الشعرية التي أرادها وسيلة للتغيير المأمول ، ولربما وجد في مجلة ” شعر ” منبراً قابلا لأن يمارس الفعل ، لكن بعد توقفها عن الصدور ، وبعد معاينة التجربة ، سيكتشف أن ” الشعر لم يعد ديواناً للعرب ” بمعنى أنه لم يعد يملك القدرة على إحداث فعل التغيير ، وسيذهب ، بدءا من مطلع السبعينات ، نحو الكتابة المعدة لتكون ” مرئية ” في المسرح والتلفزيون والسينما على أمل أن يكون الفعل أكثر تأثيرا ، ولربما يمكن القول أن كتابه ” سأخون وطني ” كان ذروة التجربة ، وخلاصتها ، عنده ، وفيه سيذهب إلى الفرز ما بين نوعين من الأوطان ، الأول هو أوطان مزيفة قائمة على الاضطهاد والقهر ، وأوطان حقيقية ينعم ناسها بالحرية والكرامة ، والماغوط كان يريد القول أنه سيخون النموذج الأول وسيلة للصدام معه ومحاولة الانتقال به إلى الثاني .
فيما ستشكل ظاهرة ” عبد الكريم الجندي ” مقذوفا هاما هو الآخر لكن يختلف في طبيعته عن الأول ، فالرجل الذي تنقل فيما بين المناصب قبيل أن يصبح رئيسا لـ ” مكتب الأمن القومي ” في آذار 1966 ، كان ظاهرة استثائية بكل المقاييس ، فهو ” بعثي ” حتى العظم ، و ” يساري ” حتى العظم ، وفي ممارسة الإثنين كان متصلبا لدرجة أصبح مستعدا فيها لإعلان ” الحرب ” على كل من لا يؤمن بهما مجتمعين ، يقول من كتبوا عنه ، ممن عرفوه عن قرب ، أنه كان انفعاليا ، عاطفيا ، إلى درجة عدم الاتزان ، وهو يرى أن لبس بذلة ” الكاكي، أو الخاكي ” ، على طريقة الثوار الكوبيين ، هي تعبير عن مكنونات ” الثورة ” التي تجول داخل النفس ، أما في الممارسة فقد كان كارها للأغنياء بدرجة كبيرة ، ومؤيداً لإذكاء نار الصراع الطبقي أيا تكن المديات التي يمكن أن تصل إليها ، وهناك من ذكر أن الجندي كان يصر على حضور الملاكين لمشاهدة مراسم الاستيلاء على أملاكهم من قبل الفلاحين بعد صدور قوانين التأميم ، وفي المطلق كان الرجل وطنيا بدرجة امتياز ، لكن مع فقدان لمرونة كانت لازمة لمن كان يمسك بملفات من شأنها أن تترك الكثير في طبيعة المسير والمسار .
ثالث ” المحارات ” جاءت مع سامي الجندي ، الطبيب الذي شدته السياسة انطلاقا من رؤيا تقول أن كلا المهنتين متماثلتين في المرامي ، فإذا ما كان الطب يذهب إلى مداواة الأفراد ، فإن السياسة موكلة هي الأخرى باكتشاف أمراض المجتمع ومداواتها ، لكن حسابات الرؤيا آنفة الذكر لم تستو في التطبيق عند الرجل الذي اضطرته صراعات ” الأجنحة ” داخل الحزب إلى الابتعاد الذي قاده إلى باريس التي استضافته كسفير لبلاده فيها في ذروة تلك الصراعات ، ومنها ، أي من باريس ، راحت تتغير الصورة ، وتتغير المواقف ، الأمر الذي قاد نحو التخلي عن مهنتي علاج الأفراد وعلاج المجتمعات ، حيث سيشكل الاستقرار في بيروت فرصة لتوثيق التجربة التي انتقد فيها الكل حتى لا يكاد يبين ، من خلال الفعل ، موقع الرجل من تلك الأحداث .
بشكل ما يمكن القول أن الجغرافيا والتاريخ قد لعبتا دورا كبيرا في التجارب التي قدمتها ” المحارات ” الثلاث السابقة ، ومثلها العشرات التي كانت تدور في الفلك عينه ، لكن ما يؤخذ على تلك التجارب هو تغليب ” الإرث ” ، أي الماضي ، على الحمولات التي يفرضها الحاضر وصولا إلى محاولة استشراف المستقبل ، إذ لطالما كانت النظرة السديدة تقوم على توازن ، عند حاملها ، ما بين إرث الماضي وحمولات الحاضر اللذان يفضيان إلى وضع تصور واقعي للمستقبل .