جديد 4E

” دوير بعبدة ” … حين تجد ” الجينات ” فرصة سانحة

 

عبد المنعم علي عيسى :

تقول الروايات ، التي ينقصها التوثيق ، أنها حملت اسمها الراهن من اسم دير للعبادة يعود بتاريخه للعهد البيزنطي ، وإذا ما كانت آثار هذا الأخير لا تزال موجودة إلى الآن فإن الفعل لا يمثل دليلا قاطعا على حملها لإسم ” دوير بعبدة ” الذي تعرف به اليوم ، لكنه يعطي دليلا على أنها كانت مأهولة منذ ذلك العهد ،

الأمر الذي يؤكد تعاقب الحضارات عليها من جهة ، ويؤكد أيضا أن أثر تلك الحضارات ظل مختزنا في الجينات التي راحت تتوارثها الأجيال ، حتى إذا ما سادت ظروف أدت إلى ” سباتها ” كما حصل لمثالنا الراهن ، دوير بعبدة ، زمن القطيعة مع المعرفة التي فرضها العثمانيون إبان حكمهم الذي دام لأربعمائة عام ، عادت تلك الجينات للتحفز ، وإظهار محارها ، من جديد عندما لاحت ظروف مشجعة بنتيجة عودة الاتصال الذي ألغى فعل القطيعة آنف الذكر ، وهذا سيظهر على أجيال البلدة التي تعاقبت بعيد زوال العثمانيين وحلول الفرنسيين الذين عمدوا ، في غضون استعمارهم للبلاد الذي دام لخمسة وعشرين عاماً ، على بث نوع من التنوير الذي كان بالدرجة الأولى خادما لمصالحهم ، وخادما لمصالح الشرائح التي طاولها بالدرجة الثانية ، حيث سيؤدي اختلال تلك المعادلة إلى اضطراب الهيمنة الفرنسية على البلاد أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم حبواً نحو 17 نيسان 1946 .

كان غسان جديد  في السابعة عشرة من عمره عندما سمع بمقولة انطوان سعادة ، مؤسس الحزب القومي السوري العام 1932 ، التي أطلقها بعيد الإعلان عن فعله ذاك ” إذا كان لا بد من هلاكنا ، يجب أن نهلك كما يليق  بالأحرار لا كما يليق بالعبيد ” ، وإذا ما كانت تلك المقولة قد أحدثت دويا في ذهن ، و روح ، الفتى ، إلا أن الدوي سيتحول عند هذا الأخير إلى حال من التماهي بينه وبين كل ما يجري على لسان سعادة  ، بعدما سمع أن آخر كلمات هذا الأخير ” الحياة وقفة عز ” التي قالها في الوقت الذي كان فيه جلادوه يقتادوه إلى حتفه ، بعدها ستأخذ الأفكار منحى مختلفا عند الشاب الذي أصبح ضابطا بعمر العشرين ، والمنحى ستتضح معالمه في العام 1945 عندما قرر الإنشقاق عن ” جيش الشرق ” الفرنسي والالتحاق بجيشه الوطني حديث العهد آنذاك ، فيما سيعمق الاستقلال وما تبعه من انقلابات عسكرية ، كانت أبلغ تعبير عن وقوع البلاد فريسة الصراع عليها ، من قناعات الضابط برؤيا حزبه ، والعمل على تحقيقها بعيدا عن إطلاق الشعارات و” الثرثرة ” السياسية التي ” لا تسكت من جوع ولا تروي من عطش ” وفقا لما نقل عنه رفيقه في السلاح محمد معروف الذي كان من منفذي الانقلاب على حسني الزعيم 14 آب 1949 عندما كانا طريدين في بيروت .

مع بداية الخمسينيات ستتطور شخصية الرجل نحو تبني ” التفكير العملي ” الذي بات محوره عنده يدور حول الصراع مع اسرائيل ، بوصفها الكيان الذي أوجد لإعطاب نهوض المنطقة ، وإذا ما كان ” غسان ” عضوا في اللجنة العسكرية التي أنيط بها توقيع اتفاق هدنة مع ( دولة ) الاحتلال بعد أن باتت أمرا واقعا ، إلا أن ذلك لم يكن عنده سوى محطة في ذلك الصراع والظروف وحدها هي التي فرضتها ، فيما بعد سيصبح بعد تسريحه من الجيش 1954 ” عميدا ” للدفاع في الحزب ، وسليجأ إلى ” السرية ” وإلى بيروت التي تساعد مناخاتها عليها بعدما أصبح مطلوبا بتهمة الوقوف وراء اغتيال العقيد عدنان المالكي الذي كان محسوبا على تيار ” البعث ” ، وفي هذا السياق أظهر أداء الرجل أنه كان يملك فكرا يرقى فوق منصبه ، كان الأداء يضعه برتبة ” حامل الراية ” الأفضل للواء انطون سعادة ، أما اغتياله فقد جاء في سياق التفكير الذي خلص من خلاله لوجوب العودة إلى دمشق وعدم الاكتفاء بالانخراط في الواقع السياسي اللبناني ، حيث سيطوي حزبه بدءا من 19 شباط 1957 ، اليوم الذي اغتيل فيه ، صفحة عمل مشرقة كان من الواضح أنها ستكون ذات تأثير على مساره.

لم يكن ” آخر العنقود ” الذي يصغر أخاه الأكبر بتسع سنوات ، أقل ” كاريزمية ” من السابق الذي كان يرى فيه مثالا لاتقاد الذهن و قدرة فائقة على دوام الحيوية ، بل إن الأصغر فاق ” المثل ” بصفات كان من أبرزها المناورة والكتمان والقدرة على الاستقطاب ، وفوق هذا كله كان غالبا ما يميل إلى الصمت الذي كان طريقه لستر ما يجول في دواخله ، حتى قيل أنه لم يقابل أي صحفي على الإطلاق كيلا تكشف إجاباته عن سواتر ما انفك يعليها لتكون حاجزا بينه وبين محيطه ، لكن المشتركات في ما بين الشخصيتين لم تكن كافية ، كما يبدو ، لكي تتحدان في الطريق والمسار ، فقد اختار ” آخر العنقود ” القومية بمفهومها العربي طريقا يراه كفيلا بتحقيق طموحه بشقيه الشخصي والحزبي ، لكن ما يؤخذ على هذا الأخير تصلبه في مواقفه التي كانت ضارة بكلا الطموحين ، وفي التصنيف السياسي يمكن القول أن ” صلاح ” كانت تطغى عليه حالة ” المحافظة السياسية ” التي تختصرها مقولة ” إما كل شيئ ، أو لا شيئ ” ، وبها ، أي بتلك الحالة التي راحت تتنامى بمرور الوقت ، أصبح انكساره صعبا ، لكنه إذا ما انكسر يصبح ” كسره ” من نوع غير قابل للترميم أو التجبير .

لربما تقود التجارب السابقة لاستخلاص نتيجة مفادها أن الإرث الحضاري الذي تختزنه الشعوب في ذاتها الجمعية يظل حيا ، لا يموت ، حتى ولو دخل طور الغيبوبة بفعل شروط ومناخات فرضت عليه دخوله السابق ، والشاهد هو أن ” الجينات ” سرعان ما تستعيد نشاطها لتقلع من جديد حاملة معها حراكا وتجارب تريد القول بأن ليس المهم في المسار هو أن نصل إلى نهاياته ، لكن الأهم هو أن لا يخلو الطريق من العابرين .

إطلالة دوير بعبدة على البحر واللاذقية وجبلة

خاص للسلطة الرابعة