جديد 4E

أوجاع رأس العام

حسن م. يوسف :

توجعني حماقتنا نحن البشر. وضعنا القوانين وفتحنا المحاكم فتوهمنا أننا حققنا العدالة. صنعنا الساعات وحددنا المواعيد، فخيل لنا أننا قد ملكنا الزمن. تعلمنا الحروف والكلمات فتصورنا أننا قد ملكنا ناصية الكتابة. خلقنا المشاكل المستعصية وتوهمنا أن الحرب هي الحل الوحيد لها. صنعنا بطاقات ذكية، واستخدمناها لتعميم التعاسة وبؤس الحال على معظم الناس. شققنا طرقات سريعة، اقتنينا حواسب سريعة، ركبنا سيارات سريعة، أكلنا وجبات سريعة، وانطلقنا في الدروب بسرعة، لكن عقولنا ماتزال تعمل ببطء وبعضها ما يزال يزحف في العصور الوسطى. رفعنا الحرية شعاراً نبيلاً، ومارسناها كضمانة لحقنا في إزعاج الآخر وشتمه والاعتداء على كرامته، وإذا ما احتج الآخر علينا أفهمناه أننا نمارس حرية الاختلاف في الرأي، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية! قدرة هواتفنا المحمولة على الاستيعاب تضاعفت آلاف المرات، وسرعتها تضاعفت آلاف المرات أيضاً، أما نحن فقدرتنا على الفهم في ضمور، وعقولنا تقاعدت وأسلمت مقاليد أمورها للآلات الحاسبة.

يوجعني أنه لدى العرب جيوش من المحللين الاستراتيجيين وليست لديهم استراتيجية.

يوجعني أنه لدينا أكبر ثروة في تاريخ البشرية، وأفقر واقع يمكن أن ينحدر إليه الإنسان.

يوجعني أنه لدينا رجال كبار في العمر صغار في العقل.

يوجعني أنه لدينا نساء جميلات يشوهن أنفسهن بعمليات تجميل بحثاً عن كمال الخارج وزيف الداخل.

يوجعني أنه لدينا رجال أعمال يملكون الجرأة على الشكوى من أن أعمالهم لا تمشي إلا بعد الدفع، ويملكون جرأة أكبر لإبداء استيائهم إذا ذكّرهم أحد ما بأن اللعنة تنزل على الراشي قبل المرتشي.

يوجعني أنه لدينا ألسنة الملائكة وأفعال الشياطين، كلام الشعراء، وممارسة الحقراء، التغني بالأخلاق وممارسة النفاق!

يوجعني أنه لدينا محاكم كثيرة والقليل من العدل. لدينا كلام كثير، وأفكار قليلة. لدينا أغنياء تملكهم أموالهم وفقراء لا يملكون أي شيء!

يوجعني أن جنون البشر قد انتقل إلى الطبيعة، وأن ذكاء الكائن البشري المجرد من الأخلاق فتح صندوق الشرور وأطلق سراح غازات ومواد صلبة وإشعاعات لا تستطيع الطبيعة إذابتها وإدخالها في دورتها، بحيث باتت تهدد سياق دورة الحياة على كوكب الأرض.

يوجعني ازدياد التصحر في كوكبنا، وتصاعد نسبة الإشعاع النووي في الغذاء والماء، وازدياد طرح الغازات التي تتجمع في الغلاف الجوي.

توجعني الثقوب التي أحدثتها ممارسات الإنسان في طبقة الأوزون التي تحمي الأرض من تسلل الأشعة ما فوق البنفسجية إليها، تلك الأشعة التي قد تسبب الإصابة المباشرة بسرطان الجلد.

يوجعني تجاهل البشرية للتحديات المناخية، بشكل غير مسؤول.

يوجعني قيام بعض وسائل الإعلام بتصوير ارتفاع حرارة كوكب الأرض، كما لو أنه لعنة غامضة لا علاقة لها بالممارسات الخاطئة للدول وخاصة (العظمى) منها!

يوجعني أن ما قاله بديع الزمان الهمذاني قبل ألف عام على لسان بطل مقاماته النصاب أبو الفتح السكندري ما يزال صحيحاً:

“هذا الزمان مشومُ  / كما تراه غشومُ /الحمق فيه مليحٌ  / والعقل عيب ولومُ /  والمال طيف ولكن / حول اللئام يحوم”  بركاتك يا بديع الزمان، أنت لم تر الماضي والحاضر فقط، بل رأيت ببصيرتك الثاقبة المستقبل أيضا.

يوجعني أن واقعنا تغير كثيراً من حيث الشكل، لكنه من حيث الجوهر لم يتغير منذ أكثر من ألف عام.

معظمنا ينتظرون قدوم الغد كي يصححوا أخطاء اليوم، لهؤلاء أقول: امتحان الحياة أيها الأعزاء يختلف كلياً عن الامتحان الذي قدمناه في المدرسة. في امتحان الحياة لا توجد ورقة مبيضة كي نعيد صياغة ما كتبناه على مسودتها فيما بعد. وأسوأ ما في الأمر، هو أنه لا أحد يستطيع أن يضمن شيئاً يتعلق بهذه الـ فيما بعد، فهي في لحظة ما قد تبدو أكيدة وقريبة وواضحة، لكنها مع حركتنا في الزمن تظل بعيدة عن متناول اليد ومحاطة بالغموض والشكوك.

الشيء الأكيد الوحيد، هو أن الحياة هي ما يجري، بينما ننتظر نحن شيئاً آخر.

في مثل هذه الأيام قبل سنوات، قلت إن البشرية لن تخرج من أزمتها الحالية إلا عندما تصغي لحكمائها، رغم أن كل المؤشرات الحالية توحي بصورة جلية أن الزعران قد استولوا على دفة الكرة الأرضية، وباتوا يخرسون أصوات العقلاء بمختلف الطرق المبتكرة.

رغم ذلك وما عداه، وما سبقه وما تلاه، أود أن أقول لكم ولكل قلب محب يستنير بضوء الإنسان: كل عام وأنتم بخير! كل عام والعدالة في قلوبكم، والقوة في أيديكم، والأحلام الجميلة تنمو مع أبنائكم، ووردة الإنسان ذات العطر النادر تتفتح فيكم ولكم عطراً وبهجة وحرية!

( فينكس )