عبد الحليم سعود
تعاني الانتخابات البرلمانية عموماً سواء في منطقتنا والكثير من دول العالم من ضعف الإقبال الجماهيري عليها ــ إلا في حالات نادرة ـ وتختلف أسباب هذه الظاهرة من بلد إلى آخر تبعاً لظروفه الأمنية والسياسية، ومدى فعالية وجدوى هذه الانتخابات في إنتاج برلمان يعكس التمثيل الحقيقي لمختلف شرائح المجتمع، ويسهم في بناء وتطوير وترسيخ دور المؤسسات بما يخدم الشريحة الأوسع من المواطنين ويرعى شؤونهم ومصالحهم.
وإذا كانت المشاركة في الانتخابات البرلمانية ترشيحاً أو اقتراعاً قد تحولت في بعض البلدان “المتطورة” إلى نوع من الترف السياسي ونمط من أنماط التداول التقليدي للسلطة بين الأحزاب الرئيسية، فإن الانتخابات والمشاركة فيها في منطقتنا التي تعاني ظروفاً سياسية وأمنية واقتصادية معقدة، وصراعات وحروب وأزمات خطيرة وتدخلات خارجية، ليست كذلك، بل تحولت إلى ضرورة وطنية وحاجة ماسة لترسيخ مبادئ السيادة والحرية والمشاركة والديمقراطية، وتعزيز دور المواطن وإسهامه في صنع القرار السياسي داخل بلده، وتحصين هذا البلد من التدخلات الخارجية، في ظل وجود أحزاب وجماعات تتقاطع مصالحها مع قوى خارجية بحيث لا يضيرها ولا يحرجها رهن سيادة بلدها لقوى أجنبية طامعة.
كما أن هناك حاجة ماسة أيضاً للمشاركة في الانتخابات من أجل المساهمة في صنع القرار الاقتصادي، والحيلولة دون ترك هذا الشأن في أيدي حفنة من القوى الطفيلية الفاسدة التي تبحث عن مصالحها الخاصة والضيقة بعيداً عن مصالح عامة الشعب.
وليس سراً أن المواطن في بلادنا لم يعد متحمساً كثيراً للمشاركة في الانتخابات البرلمانية لأسباب عديدة، بعضها متعلق بضعف وعيه الانتخابي أو السياسي بحيث يعتقد أن لا أهمية لمشاركته في ترجيح كفة مرشح على آخر، وبعضها مرتبط بضعف الحملات الانتخابية وتشابه البرامج الانتخابية للمرشحين، ووقوع هؤلاء في فخ الشعارات المعلبة والممجوجة التي ملّها الجمهور، إضافة إلى غياب الدافع الحقيقي للمشاركة الفاعلة، بسبب تكوّن صورة ذهنية نمطية مسبقة حول الانتخابات بشكل عام، قائمة على فرضية أن النتائج محسومة مسبقاً ولا جدوى من المشاركة فيها لأنها لن تغير شيئاً، إضافة إلى انشغال الغالبية العظمى من المواطنين بهمومهم المعيشية، وعدم ثقتهم الكافية بأعضاء البرلمان كأداة فاعلة في الرقابة على الحكومة والضغط من أجل تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتقديم ما هو أفضل.
ومما ساعد على تشكيل هذه الصورة النمطية في بلادنا هو فتور الحياة السياسية ونمطيتها، وتشابه الأحزاب في خطاباتها الإعلامية وشعاراتها السياسية، وتكرار وصول نفس الوجوه والشخصيات السياسية والاقتصادية الفاحشة الثراء إلى البرلمان، ما يعطي انطباعا بأن المال والعلاقة مع السلطة قرباً أو بعداً لهما الكلمة الفصل في النتائج النهائية، وقناعة البعض بأن أصواتهم لن تقرر شيئاً، إذ أن الوصول الدائم والمتكرر لبعض الأشخاص إلى قبة البرلمان على حساب أصحاب البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية الطموحة، عزز هذه الصورة في الأذهان، وأثار تساؤلات حول قدرة الكثير من المرشحين الأكفاء ممن يعكسون إرادة وطنية على المنافسة مع مرشحين تقليديين أدمنوا الوصول والمكوث في البرلمان دون أدنى فاعلية.
لكن ثمة حقائق مستجدة لا بد من الاعتراف بها والإضاءة عليها للإنصاف والأمانة التاريخية والعلمية، فالحياة السياسية في سورية لم تعد كما كانت في السابق بل شهدت في السنوات الماضية العديد من التطورات المهمة التي ربما تساعد على تصحيح الصورة النمطية المرسومة في الأذهان حول الانتخابات البرلمانية، وتفند وتجهض حملات التشويش والتشويه الإعلامية التي تحاول النيل من بلدنا لغايات دنيئة لا علاقة لها بمصالح الناس.
فقد صدرت العديد من القوانين المهمة التي تنشط الحياة السياسية في سورية، منها فتح المجال أمام تشكيل العديد من الأحزاب السياسية الوطنية، إضافة إلى صدور قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقانون الإعلام وقوانين أخرى، كما تم تعديل دستور البلاد وفقا لمتطلبات المرحلة الحالية والحاجة للتغيير، وتم الاستفتاء عليه بعد إزالة بعض المواد الإشكالية وإضافة مواد أخرى من شأنها الارتقاء بالواقع والعمل السياسي في البلاد.
غير أن هذه التطورات الايجابية لا تمنع من وجود ظروف طارئة ومعقدة أو معايير أو تقاليد موروثة قد تؤثر سلباً في عملية المشاركة والانتخاب، فثمة مرشحون وضعوا الوصول للمجلس هدفاً بذاته وهم مستعدون للتضحية بالناخبين ومصالحهم وبالوطن من أجل تأمين بريستيجهم البرلماني وتالياً خدمة مصالحهم الضيقة، وثمة تحالفات غير مرئية بين قوى داخلية ــ قد يكون لها ارتباطات خارجية ــ ساهمت بشكل ما بتعطيل دور المجلس في مراحل سابقة وجعلته ملحقا بالحكومة لا رقيبا عليها مرسخة صورة غير مستحبة في نفوس الناس تجاه البرلمان ودوره بشكل عام، ومرشحو هذه التحالفات المصلحية مرشحون للفوز بشكل دائم بسبب تحكمها بالحياة الاقتصادية في البلاد، ما قد يضعنا أمام نسخة برلمانية مطابقة لما سبقها مع تعديلات طفيفة بالأسماء لا تقدم ولا تؤخر، وهذا كله منوط بوعي الناس وقدرتهم على اختيار من يعكس طموحاتهم من عدمه.