جديد 4E

مختلسون ونصّ.. الياقات البيضاء ليست دليل براءة !!

 

نـاظم عيــد :

لم يكن مازحاً ذلك الرجل الذي اتصل بنا ذات يوم، مرغياً مزبداً، وهو يتوعّد بسحب استثماراته من البلد ” الانسحاب من الاقتصاد السوري” بسبب مضايقات تعرّض لها، و ” البيئة غير المشجعة للاستثمار” على حد تعبيره…

بعد التحرّي والاستفسار اتضح أن استثمار ” رجل الأعمال ” هذا، عبارة عن سوبّر ماركت في إحدى مدن ريف دمشق، وسبب “ثورته” كانت عدم الموافقة على اعتماد شهادة السوق التي حصل عليها من دولة خليجية، حيث كان يعمل، واستبدالها بإجازة سورية خاصّة.!!

الحادثة قبيل الحرب على سورية، أي قبيل الأزمة والحصار واختلاط الأوراق ودخول البلاد في نفق الضائقة الرّاهنة، ورغم ” سخافة” الطرح الذي دفع به ” المستثمر الغاضب” آنذاك، إلّا أن كان بالإمكان تفهّمه كأن نطالب بتعديل قانوني بسيط يضفي بعض المرونة في التعاطي مع حالات كحالته، لكنه كان طرحاً ” ابتزازياً” اعتدنا عليه في سياق اللهفة الحكومية لاستقطاب الرساميل من الخارج ، وإفراطها في إنتاج التسهيلات المغرية لتحقيق هذا الهدف، ونذكر أن ثمة تحفظات كثيرة أبداها خبراء الاقتصاد وكذلك الإعلام، على السخاء الزائد في الإعفاءات التي رآها بعضهم أنها حالة إذعان وليست إجراءات تحفيز واستقطاب..!

اليوم بات “الابتزاز” ورقة خبيثة يلوّح بها في وجه الحكومة، كلّ من يلفحه استحقاق من أي نوع، كان قد سقط سهواً أو أُسقط عمداً، في خضم تفاعل جذوة ما يمكننا أن نسميه ” الاستثمار في الفساد”، وكان العنوان الأبرز التهرب الضريبي الذي اختلفت وتباينت كثيراً التقديرات بشأنه، لكنه كان رقماً كبيراً يفوق الرقم الإجمالي للموازنة العامة للدولة في سنة مالية كاملة، وهذه وقائع لا يستطيع أحد إنكارها، هي ذاتها ما حدا بالكثير من الخبراء  – وحتى رجال أعمال – ليهمسوا همساً بأن سورية باتت ” جنّة ضريبيّة ” حقيقيّة لجهة الممارسات وليس التشريعات.. بالتالي ارتفعت المؤشّرات هنا إلى مستويات متقدمة بالمقارنة مع دول أخرى في المضمار الإقليمي والعربي، لجهة العائد الاستثماري وسرعة دورة رأس المال، لكنها مؤشرات لم توثَّق حينها، بل على العكس لم ينقطع ضجيج ” الابتزاز” والشكوى لذرّ الرماد في العيون، على طريقة المثل اللبناني الشهير ” النّق سياج الرّزق”.

لقد وصلت حالة ابتزاز بعض رجال الأعمال للحكومة، بل وللبلد عموماً، إلى درجة مريبة بمجرّد عودة الحكومة حالياً إلى الدفاتر القديمة تحت وطأة الحاجة الملحّة، ومحاولة استدراك تراخٍ مريب لحكومات سابقة في تحصيل حقوق الخزينة، ومطالبة من أدمنوا تجاهلها والالتفاف عليها، ليعلو الصراخ والتذمّر، بل وأحياناً “الوعيد” المنقول بالوكالة عبر صفحات الميديا الملوّنة المتلوّنة ؟؟!!

رغم أن الظرف الصّعب حالياً يقتضي أن يبادر رجل الأعمال لتسديد التزاماته الضريبيّة طوعاً، لا أن يتهرّب ويتذمّر ويملأ الدنيا صراخاً من المضايقات التي يتعرّض لها، لكن ما يحصل بات مُحبطاً لأنه كشف أننا فقراء بأهم ثروة تفاخر بها اقتصادات العالم وهي الكم الذي تحظى به من رجال الأعمال الحقيقيين.

ندرك أن في مثل هذا الطرح ما لن يروق لكثيرين، في زمن اختلاط الأوراق وتداخل الحقوق والواجبات، وانحراف المفاهيم وانزواء استحقاقات الانتماء أو هبوطها إلى درك متدنٍ على لائحة الاعتبارات الطارئة التي عوّمتها الحرب والأزمة.. لكن المنطق يفرض نفسه دوماً ولو بقسوة ليبقى منطق.

ولمن لا يقتنع إلا بالأدلّة الحسيّة – وهؤلاء على حق – نختم بسرد حادثة كنّا شهوداً عليها في أحد الاجتماعات الرسميّة المخصصة لمناقشة آليات التحقق الضريبي.. حيث باح أحد المعنيين في وزارة المالية – على خجل في محاولة لدرء الفضيحة – بأن شركة كبرى دفعت ببياناتها إلى وزارة المالية، مفصحةً عن رقم أعمال لا يتجاوز 200 مليون ليرة في عام كامل ” الحادثة في العام 2019″، لكن بعد المراجعة والتحقق والتحقيق اعترف صاحب الشركة بمبلغ ” 7 مليار  ليرة” كرقم إجمالي لأعمال شركته في ذاك العام، فيما أفصحت شركة أخرى عن 3 مليار ليرة فيما كانت تحاول الاكتفاء بمبلغ 50 مليون ليرة.

فكم لدينا مثل هذه الشركات.. وكم هي قيمة الأموال المستحقّة للدولة والتي أدرجها أصحابها في قائمة العائدات والأرباح و ” الحذاقة الاستثمارية” ؟؟

هؤلاء هم الصارخون الناعبون ناشرو الضجيج في كل اتجاه من مجرد وضعهم أمام استحقاقات مترتبة عليهم.. فكيف لو اختارت الحكومة معالجة أوضاعهم بمفعول رجعي..؟؟

هامش:

سورية من البلدان القليلة في هذا العالم لم تلحظ في قوانينها عقوبة السجن للمتهربين ضريبياً.

هامش2:

تهم التهرّب الضريبي أطاحت بـ” برلسكوني” رئيس وزراء إيطاليا وكانت الضربة القاصمة من بين سلسلة تهم استطاع مواجهتها.. إلا التهرب الضريبي

الخبير السوري