جديد 4E

إدارة الاختناق

حسن م. يوسف :

كان يقول لي ببساطة ووضوح إنه سيسافر، بحجة متابعة الدراسة، فور انتهائه من أداء خدمته الإلزامية، لأنه لن يستجدي فرصة عمل هزيل يمنحه إياه شخص هزيل ليمضي عمره وهو يراقب حياته الهزيلة وهي تتحول إلى مهزلة! وفي ختام كل نقاشاتنا كان يقول لي بلهجة حاسمة باردة «دعنا من العواطف المريضة» وغالباً ما كان يردد على مسمعي قول شاعر تونس الكبير أبو القاسم الشابي:

«أبارك في الناس أهل الطموح/ ومن يستلذ ركوب الخطر/ وأعلن في الكون أن الطموح/ لهيب الحياة وروح الظفر».

كنت قد علمت أنه سرح من الجيش قبل أشهر وتمكن من الحصول على قبول في إحدى الجامعات الألمانية، بسبب علاماته الممتازة، لهذا فوجئت عندما صادفته في مطلع الأسبوع الماضي واقفاً على باب أحد مراكز التصوير الشعاعي في أحد المشافي الحكومية، كنت أعلم أن والده يعاني من داء النقرس فأشرت برأسي إلى مركز التصوير متسائلاً: «السيد الوالد؟» فهز رأسه بالنفي قائلاً بأسى: «الوالد أعطاك عمره منذ نصف عام»، هممت أن أسأله عمن ينتظر فالتقط السؤال من عيني قبل النطق به.

قال: أثناء خدمتي في الجيش نشأت صداقة طيبة بيني وبين شاب من ناحية السبخة شرقي الرقة، وأثناء إحدى الدوريات انفجر فيه لغم أدى لاستشهاده وقبل أن ترتقي روحه الطاهرة إلى باريها أوصاني بأمه المريضة التي ليس لها أحد سواه. نظرت إليه باحترام قائلاً: وماذا عن «الطموح، لهيب الحياة وروح الظفر». في تلك اللحظة فتح الباب وبرزت ممرضة تدفع كرسياً متحركاً تجلس عليه امرأة ستينية يغطي الوشم وجهها. شكر الشاب الممرضة وأخذ مكانه خلف العربة وراح يدفعها ثم التفت نحوي قائلاً بلطف لم أعهده فيه: «الطموح يجب أن ينتظر».

راقبته وهو يبتعد في الممر، في عيني حرقة، وبي رغبة جارفة لأن أركض خلفه وأعانقه. لكنني بقيت في مكاني خشية أن ينادى باسمي للدخول إلى المرنان. رحت أراقبه وهو يبتعد ويذوب في الزحام.

تذكرت هذه الحالة الإنسانية العالية عندما قرأت قبل أيام لسان حال لأستاذ جامعي مشهود له بالنزاهة والكفاءة يقول فيه إنه قد قلب لسان الحال في رأسه لفترة طويلة دون أن يكتبه إما بسبب «ضيق الخلق أو عدم الرغبة في قول أي شيء» ربما لأن عقله مشغول كلياً، «بمسألة الماء وتنفيس الدينامو وتناغم مجيء الماء مع مجيء الكهرباء، وكيفية ضبط وقت نزوله من البيت وعودته إليه مع مجيء الكهرباء كي لا يضطر لصعود مئة وستين درجة دون أن يطلق الشتائم بسبب انقطاع نفسه وهو يصعد إلى شقته الواقعة تحت سدرة المنتهى بطابق واحد!

لكنه قرر أخيراً أن يبق البحصة وأن يرد على ألسنة حال بعض الأصدقاء المتألمين لهجرة العقول، وأنا منهم.

خلاصة ما قاله صديقي الأكاديمي الرصين هو أنه مع هجرة كل الشباب إلى خارج البلد وخاصة منهم ذوي العقول، لأن العقول المبدعة والنظيفة، على حد قوله، تداس وتهمش وتفرم «بقانون عطالة جهنمي مشغول عليه بخبث وعناية شديدة منذ عقود طويلة». وهو يبرر دعوته المتطرفة هذه بقوله دعوا هذه العقول الشابة «تتفتح في بيئات تقدرها وتستحقها».

أومن عميقاً في قلبي أن هذا الكلام الذي أطلقه صديقي الأكاديمي ما هو في حقيقة الحال سوى فشة خلق، وأكبر دليل على ذلك هو أنه شخصياً ما يزال هنا رغم كل الإغراءات الشديدة التي عرضت وتعرض عليه بفضل سمعته العطرة كمدرس فهيم لا ترقى إليه الشبهات.

لكن لسان الحال الذي أطلقه صديقي الأكاديمي، ليس مجانياً بل هو مؤشر خطير يجب على كل ذوي القرار أن يولوه اهتمامهم علَّهم يدركون أنه قد آن الأوان لحل الأزمات الخانقة بدلاً من إدارة حالات الاختناق.

من دفاتر الوطن – 29 / 8 / 2021م