جديد 4E

مقابلة عبر أثير *

 

بيانكا ماضية :

كانت رأسه مليئة بأفكار لم يستطع أن يلتقط رأس خيط منها ليدوّنها في قالب أدبي.. وكان الفضاء من حوله قد صمتَ قليلاً عن صوت الانفجارات القوية التي تهزّ الأرض والبشر.. سكونٌ حام حوله يشي بأشياء وأشياء.. ولكن صوته الداخلي لم يكن ليصمت.. كان يغلي ويفور.. يصعد حتى آخر قرارٍ ويهبط حتى آخر جواب..

دقائق وتكون على الهواء.. لن يستغرق الوقت أكثر من دقائق.. سنسألك عن آخر كتاباتك في هذه الحرب..نعلم أن الوضع سيء.. لكن لابد من إسماع كلمة المثقف الرازح تحت نير حرب العالم أجمع..

هذا ماكان يقوله له المذيع في الاستديو في أثناء هذا الصمت..قبل أن يتم التسجيل عبر الأثير..

-أهلاً وسهلاً بك أستاذ في حلقتنا هذه عن الكتابة في ظلّ الحرب.. فما هو إبداعك الجديد؟!

صمت برهة قبل أن يجيب.. تذكّر آخر قصة كتبها عن الحرب، وهو يسمع صوت الانفجارات من حوله والقذائف..آخر قصة كتب فيها حكاية تلك الفتاة الجامعية التي بترت ساقها بعد أن نالت منها قذيفة حاقدة قبل أن تصل إلى جامعتها…تذكر التفاصيل بسرعة البرق ثم قال:

-لايستطيع الكاتب إلا أن يحمل معاناة وطنه.. مآسيه.. انفجاراته.. جراحه.. آلامه وصراخه..لابد من أن يصرخَ في وجه العالم ضد الظلم.. صرخاته تدوّي في كل الساحات والقلاع.. لايستطيع إلا أن يدخل في عمق القضايا وعمق الجراح.. لايستطيع إلا أن يسمع ويرى ويلمس ويتألم.. حتى تلك الكلمات التي يدمدمونها في أثناء الدفن يصيخ السمعَ لها.. يتأملها.. يصبح مفردةً فيها.. حتى ذلك الخشب الذي يُلف به جسد الشهيد يتأمل لونه ومساميره.. يتأمل الجثة في الداخل المعتم..شكل الوجه والأطراف..

– يبدو أنها إرهاصات قصة ما تشغل تفكيرك اليوم! يقاطعه المذيع بعد أن يرتشف من فنجان قهوته الموضوع أمامه.

-أرسل لي ابن صديقي المتطوع في الجيش رسالة عبر هاتفه النقّال كتب فيها: قبل قليل استشهد صديقي.. لم أرَ جثته.. لم أرَ شيئاً من جسده..لطخةَ دم أو يداً مبتورة.. تبخّر كما يتبخّر الماء فيتحوّل إلى غيمةٍ فمطر.. لم أرَ شيئاً.. لكني سمعت صوت الانفجار آتياً من بعيد.. تبخّر الجسدُ فأمطرت الروح…

هذا الجسد المتبخّر سيكون جسدَ القصة التي سأكتبها..

-القصص المكتوبة في الحرب جميعها أجساد شهداء.. وجميعها تنقل معاناة وأسى..

قاطعه الكاتب قائلاً:

-ولكن من يستطيع أن يكتب تلك القصص التي لم تُشاهد!.. تلك التفاصيل التي تختفي بموت شهيد!.. ذاك الصراخ الذي يطلقه قبل الموت.. الألم الذي يشعر به قبل صعود الروح.. من يكتب عن تلك الأفكار التي تعبر ذاكرته آنذاك.. عن الكلمة الأخيرة.. عن الرصاص الذي يُطلق في كل أوان!.. عن مشاعر رفاقه وهم يرون لحظة استشهاده.. عن أحاسيسهم وهو مسجّى في تابوت وهم يلقون عليه تحية الوداع..عن حكاياتهم الماضية التي كانوا يروونها ذات ليل ساكن.. وتلك التي كانوا يحلمون بها ذات صباح!. من؟!

كان يتفوّه بهذا وصوته يعلو فيعلو..قاطعه المذيع:

-ولكن هناك كتّاباً أرّخوا في أدبهم تلك اللحظات!!

ضحك ضحكة ساخرة.. وتابع كلامه:

-وستبقى هناك لحظات مؤلمة بقيت خارج الكتب والحكايات.. ستبقى هناك خيمٌ لجنود لم يدخلها كاتب.. خيمٌ كان الموت يلفّها زناراً من لهب.. ستبقى هناك ميادين لم يطلها قلم..بيوت ونوافذ وأسرّة تئن وتتألم.. جسورٌ وطرقاتٌ ومنعطفاتٌ كانت تشهد كل شيء.. فضاءٌ سماوي يطلّ على كل المشاهد.. فضاءٌ صامت..فضاءٌ متفجّر.. كلّ شيء ناقص.. حتى أكثر الروايات والقصص اكتمالاً بقي هناك شيء لم يأخذ مكانه بين سطورها..بقي على الهامش كما تبقى الذكريات في الأذهان.. وربما كان ذاك الشيء هو الأهم من كل ما حفلت به تلك الروايات..هو ذاك الشعور الحقيقي لكل ألم..

-هل باستطاعتك أن تسجّل بعضاً من ذاك الشعور الحقيقي بالألم في نصٍّ ما؟!

-كيف بإمكاني أن أغوص في مسامات جسد وخلاياه..في روح تتآكل أجزاؤها.. في ذاك التناغم مابين الروح والجسد…كيف بإمكاني أن أتلمّس إحساس جسدٍ لحظةَ قُطع رأسه.. لحظةَ اخترقت الرصاصة الرقبة.. لحظة التهمت النارُ كلَّ شيء في هذا الجسد.. كيف بإمكاني أن أتلمس شعور من وصل إلى مرحلة الانتحار ففجّر نفسه قبل أن يطاله الشرّ القادم من كل الجهات..كلّ شيء ناقص.. كلّ شيء ناقص..

– وهل تبحث عن اكتمال أم عن تجسيد؟!

-أبحث عن كلّ شيء بُتر من أصله..

انتهت المقابلة وخرج من مبنى الإذاعة وهو يفكّر بما يحوم حوله من مآس وعذابات وحروب وغبار.. وما إن همّ لاجتياز الشارع حتى تغيّر العالم من حوله.. صوت قوي وانفجار أقوى وضجّة وأصوات لاتنتهي.. ثم ساد صمت.. ووجد نفسه يعبر ممرات وغرفاً حتى استقر في غرفة في المشفى مضمّد الجراح مبتور اليد.. حاول أن يحرّك يده تلك لكنها كانت بقايا.. وبين ذراعه المبتورة وإحساسه الجديد الغامض ظل صوتٌ في داخله يردد: فقدتَ يدَك لكن العالم صار قابلاً للكتابة أكثر.

 

*قصة قصيرة للزميلة الأديبة بيانكا ماضية، كانت قدّمتها عبر مساهمتها بالأمسية الأدبية التي أقامها فرع حلب لاتحاد الكتاب العرب في 22 الجاري.