جديد 4E

طقوس الهمّ الأخير

 

حسين صقر :

إذا أراد أحدكم أن يعمل عملاً فليتقنه، مقولة كثيراً ما نقرأها قليل ما نطبقها، حتى بات معظمنا يستهجن من شخص يتفانى لخدمة عمله ويمنحه كل وقته، ليقول في ذاته: لولا المنفعة الشخصية المحضة لما أقبل ذلك الشخص على ذلك، دون أن يدرك أن الدنيا مازالت بخير، ولولا هؤلاء الغيارى على المصلحة العامة لتغيرت الأمور، وسار المركب كما يشتهي أعداء سورية، والحاقدون عليها.

ففي كل يوم نسمع قصة عن عامل أو موظف أو مسؤول خرج من مكتبه، تاركاً الكرسي الفخم الدوار، والمكتب العريض والكارتيبل المملوء بالأوراق ، والطاولة التي بجانبه والتي ملأ فراغات سطحها الهواتف والفاكس والحاسب وغيرها من تقنيات، فقد يكون مهندساً ارتدى صدرية العمل، ليذهب على خط الإنتاج مقترباً بكل حنان وكفاءة وتواضع وإرادة من الآلة، ليصلح ما فيها من أعطال، مانحاً إياها إمكاناته ومعرفته وخبرته، و غير آبه بما تتركه مخلفات العمل من آثار على بزته أو لباس العمل، لأنه يعتبر أن التعب مهما كان فإن لذته تبقى، و سيبقى مجرد تعب ويزول بحمام ساخن أو غسل يدين أو استلقاء بعد ذاك العناء، فيما يهمه النتيجة فقط، أن يصلح العطل بمساعدة زملائه من مختصين بالصيانة يداً بيد، فذلك لن ينقص من شأنه شيئاً.. وقد تراه يتابع أدق التفاصيل لخدمة عمله الذي يعود بالنفع على المواطنين، والأمثلة على ذلك كثيرة، في قطاعات الصناعة والزراعة والمياه والبناء، والقائمة تطول، لأن الدنيا مازالت  بخير.

وفي موقع آخر نرى طبيباً في مشفى، وهو على استعداد ليكون إدارياً وجرّاحاً وممرضاً، وقد تراه في موقع آخر يسحب أو يجر سرير أو عربة المريض، وربما تراه يمسح عن وجه ذلك المريض بعض الآثار المتبقية على جسمه من عمل جراحي كأم رؤوم، لا تأخذه عقدة الدال، ولا طقوس بعض الأطباء التي تعفنت نفسياتهم وتحمضت، ويحدثون المراجعين بفوقية، وأحياناً وهم يسيرون والمريض او ذويه يركضون خلفهم بسرعة ليلتقطوا من “استشاراتهم وإبداعهم” كلمة ترفع من معنويات مريضهم.

وفي المدرسة ترى معلماً يبذل قصارى جهده لإيصال المعلومة لطلابه بأيسر السبل وأسهلها، وذلك عبر القراءة والمطالعة والبحث والتقصي، فتراه مرة موجهاً وأخرى مرشداً اجتماعياً ونفسياً ومرة مديراً وحارساً، ومرة معلم صف وفي أحيان أخرى ينظف الغرف الصفية إلى جانب العامل المختص بتلك الأعمال، وفي أحيان كثيرة تراه أباً وصديقاً وأخاً للطالب أو الطالبة، ويحرص على مصلحة وسير العملية التدريسية بكل عزيمة ورباطة جأش.

وفي القضاء ترى قاضياً نزيهاً، وفي الطريق شرطياً مساعداً خادماً حقيقياً للشعب، وترى فلاحاً مثابراً لعمله، وفي حقل الإعلام نرى زميلاً أو زميلة متابعين مثابرين بكل جد ونشاط لعملهم، فمرة يكون أحدهم مديراً مسؤولاً ، وأخرى منضداً ومرة مدققاً لغوياً ومخرجاً ومتابعاً ميدانياً.. فمازالت الدنيا بخير..

بالطبع قائمة المهن والمصالح والحرف والأعمال تطول، وفيها من الشرفاء من موظفين وعمال وأصحاب أعمال حرة، وبين كل شريحة من هؤلاء، أشخاص يلقنوننا دروساً وعبر في العمل والإخلاص له.

هذه هي أخلاق العمل، وهذا التواضع بعينه، فلو دامت لغيرك، ما وصلت إليك.. فلنتذكر دائماً هذه العبارة، وهناك أشخاص نبارك ونهنئ  للمهمة التي يكلفون بها وللمنصب الذي وصلوا إليه، ويشرّفونه ويخدمونه، وهناك من جاء منهم ليخدم مصلحته عبر تلك المهمة، وبالتالي لن يفعل كمن نتحدث عنهم، لأن همه الأخير العمل، والأول تعبئة جيوبه وخزائن ماله.