الدفع الإلكتروني .. استهزاء بالمواطن فعلاً وانفصال عن الواقع .. أم هو ضرورة حضارية وعصرية متاحة ..؟
الكثير من دول العالم سبقتنا في هذا المجال .. وتجربة أرض الصومال تعطي نموذجاً لأهمية هذه الخدمة
علي محمود جديد
مع إطلاق خدمة الدفع الإلكتروني .. اختلفت الآراء وردود الأفعال، ولكن أغلبها – حالياً على ما يبدو – يميل إلى الرفض، على أساس أن الراتب زهيد لا يليق به أي دفع ألكتروني فهو ما أن يؤخذ حتى سرعان ما يذوب.
وقد وصف البعض هذه الخطوة بأنها ( مسخرة ) واستهزاء بالمواطن العادي، فعلى اي أساس سيوطن صاحب راتب تافه سخيف راتبه في مصرف وهو يقنن فيه كي لا يتبخر، معتقدين أنه عند التعامل الإلكتروني لا يمكن اختيار ما تشتري بما معك، فهناك فجوة كبيرة جدا بين ما يجري العمل لأجله وما هو واقعي، إذ يجب النظر قليلا إلى جيوب الناس والتفكير كيف يمكن أن تُبنى لهم محفظة مالية بنكية.
الدفع الإلكتروني – كما يراه البعض – ليس ذا قيمة الا للتجار والاثرياء كي لا يتعذبوا بحمل أموال كبيرة او دفاتر شيكات.
وهواجس عديدة يطرحها الكثيرون بهذا المنحى مستهجنين حتى مجرد التفكير بهذه القضية فكيف بتطبيقها..؟!
من جانب معيّن ربما يكون معهم حق، فأمام الغربة التي ما تزال هي الطاغية بينهم وبين هذه الخطوة، من الطبيعي أن يشعروا مبدئياً بالنفور، ولكنها هي خطوة نراها حضارية بمختلف الأبعاد، وفيها مصلحة عامة للدولة ولأغلبية الأشخاص، وبالعكس مما يعتقدون فلعل أكثر المتضررين – إن صحّ التعبير وكان هناك ضرراً – هم التجار والأثرياء، فليست القضية بعذابات وأعباء حمل الأموال ودفاتر الشيكات، فهذه عملياً – على أهميتها – ليست مشكلة وهي من يوم يومها محلولة ببساطة شديدة، ولكن القضية الأهم هي حركة الأموال التي ستغدو واضحة المسار بدقة في حالة الدفع الإلكتروني، وهذا يعني انتهاء حقبة التهرب الضريبي، من خلال سهولة الكشف بعد ذلك عن الواردات والنفقات وعن الأرباح الحقيقية، بعيداً عن ألاعيب أي تاجر يقوم بإخفاء بياناته وتزويرها، فصار من المعلوم للجميع أن دفتر الكثير من التجار دفتران، واحد ظاهر مزوّر يحوّل الأرباح إلى خسائر، وواحد آخر صحيح مُخبأ في صناديق سوداء تُدوّن فيه حقيقة الأرباح الباهظة.
الدفع الإلكتروني سيتمكن من إظهار هذا الدفتر المخبأ، لأن لا طعم بعد ذلك لهذا الاخفاء ولا دور ولا فائدة، فقنوات الدخل والأرباح ستكون واضحة أمام أجهزة الدولة.
بالمقابل فإن الدفع الالكتروني سيقطع الطريق أمام أي تغاضي أو مجاملة أو محاولة رشوى وفساد لمراقبي الدخل وموظفيه، لأن العمل سيغدو مؤتمتاً ولا علاقة للأشخاص من الطرفين به، العمل سيعتمد بعد ذلك على البيانات، لا على التصريحات والتمريرات والدفاتر المخبأة أو الظاهرة.
الدفع الالكتروني أيضاً سوف يلزم التجار بتسعيرة صحيحة، وإن لم يكن كذلك فهم معرّضون للحساب والعقاب، وهذا كله يعني خفضاً إلزامياً للأسعار لأن التاجر الذي لا يعتدل بأسعاره سوف يواجه السجن والغرامات، وهنا لا حاجة لشهودٍ ولا لوثائق، فالفاتورة التي تنتجها عملية الدفع الالكتروني ستكون القرينة الكافية للإدانة.
ولذلك فإن التعاطي إلكترونياً مع عمليات البيع والشراء أفضل بكثير وأسهل على المتعاملين وأكثر مرونة، وهذا الأمر لن ندركه جيداً إلا بعد الممارسة.
لقد ذكرتني الاحتجاجات التي نسمعها اليوم والانتقادات اللاذعة الموجهة إلى قرار البدء باعتماد عمليات الدفع الإلكتروني، ذكرتني بأحد الأصدقاء الذي كان يحتج بقوة على إدخال الهاتف الخليوي إلى الحياة السورية عند بداية إدخاله في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين .. كان يقول : هذا شكل من أشكال البطر .. ومعيب .. ولا داعي له إطلاقاً، فهناك احتياجات لنا أكبر بكثير من أن نهدر سعر جهاز وندفع تكاليف اتصالات وثرثرات فارغة بلا فائدة، ولو أعطوني مليون ليرة كي أحمله فإنني لن أحمله.
كنتُ أستغرب ذلك رغم أنه رجل ذكي وعملي، ولكن بعد فترة لا تزيد عن السنة انتشرت الموبايلات سريعاً، فما كان منه إلاّ أن اشترى جهازاً، سألناه: ما الحكاية ..؟ ضحك وقال : يبدو أن هناك ضرورات له فعلاً.
بعد أشهرٍ قليلة استأجر محلاً وجعله مركزاً لصيانة الموبايلات، درّ عليه أرباحاً محرزة، ثم اشترى لكل واحد من أفراد أسرته جهازاً، وصار من أكثر المروّجين لأهمية هذه النقلة الحضارية.
تذكرته لأن الوضع مع الدفع الالكتروني سيكون هكذا – على الأرجح – مشابهاً لهذا التدرّج في هضم المسألة وقبولها أمام الوقائع التي ستثبت أهمية مثل هذه النقلة الحضارية أيضاً، خاصة وأن الأمر لن يكون إلزامياً، فمن يريد البقاء على ( الكاش ) سيكون بإمكانه ذلك، مثلما بإمكان الواحد منّا أن يتخلى اليوم عن الموبايل، ولكن ما سوف يحصل مع المتعاملين بالدفع الالكتروني وميزاته الكبيرة سيدفع الأغلبية – إن لم يكن الجميع – للانخراط سريعاً مع هذه الخدمة النوعية.. مثلما انخرط صديقنا الذي كان رافضاً لخدمة الهاتف النقّال.
نشير أيضاً إلى أن الكثير الكثير من الدول المتقدمة والدول النامية قد سبقتنا أشواطاً في مجال الدفع الالكتروني، وسنورد لكم مثالاً عن أشقائنا في الصومال – مثلاً – حيث نشرت / BBC / في عام 2017 تقريراً عن لجوء سكان ( أرض الصومال ) المنفصلة عن الصومال دون اعتراف دولي حتى الآن، حيث عانى سكانها الكثير من الفقر وصعوبة الحصول على أموال بعد أن تدهورت قيمة عملتهم المحلية ( الشلن ) ولكن باعتماد الدفع الالكتروني استطاعوا أن يتجاوزوا الكثير من المعاناة.
يقول التقرير :
بعد رواج أنظمة الدفع عبر الهاتف في أرض الصومال، زاد عزوف الناس تدريجيا عن النقود، بدءا من أصحاب المتاجر في مدينة هرغيسا إلى البائعين الجالسين أمام أقفاص قديمة في الشوارع غير المعبدة بالمناطق القروية شرقي أرض الصومال.
وقد ساهمت بساطة أنظمة التحويل المالية الحديثة وكفاءتها في سرعة انتشارها على هذا النحو في أرض الصومال رغم ارتفاع معدلات الأمية بين سكانها.
ويتطلب الدفع خطوات يسيرة للغاية تبدأ بإدخال بضعة أرقام وتليها مجموعة رموز خاصة بكل بائع على حدة. وتوجد هذه الرموز في كل مكان، إما مطبوعة بطرق بدائية على واجهات الأكشاك الصفيح وطاولات العرض في الأسواق، أو مرسومة بدقة ومغطاة بغلاف واق في مكان بارز على أحد الجدران الداخلية في المنشآت الكبرى.
ولا تحتاج أنظمة التحويلات المالية عبر الهاتف للاتصال بالإنترنت، ولهذا فإن أي هاتف جوال بسيط سيفي بالغرض. ويستطيع المستخدمون تحويل المال من حسابهم المصرفي على هاتفهم المحمول إلى آخر عن طريق الاتصال بأرقام وإدخال رموز بالطريقة نفسها التي تضيف بها رصيدا لهاتفك المحمول.
تقول إيمان أنيس، وهي بائعة جوالة في الخمسينات من العمر مفعمة بالحيوية، في سوق الذهب الصاخبة التي تعج بالمتسوقين بالعاصمة هارغيسا: “هذا ربح اليوم فقط”، وأرتني – يقول كاتب التقرير – على هاتفها المحمول مبيعات تجاوزت 2000 دولار أمريكي.
وأضافت أن الدفع عبر الهاتف المحمول حقق قفزة غير مسبوقة، فبعد أن كان خمسة في المئة فقط من سكان أرض الصومال يستخدمون خدمات التحويل المالي عبر الهاتف منذ عامين فقط، تجاوزت نسبة مستخدميها الآن 40 في المئة.
وتضيف أنيس أن: “استخدام الهاتف لتحويل الأموال أسهل كثيرا من الدفع نقدا، لأن أسعار الصرف تمثل عائقا كبيرا، ولكننا الآن نسدد كل شيء عن طريق خدمة “زاد”، وحتى المتسولون الآن مشتركون في خدمة زاد”.
تقول / BBC / ربما كانت هذه المرأة تلقي الكلام على عواهنه، ولكن كلامها لا يخلو من الصحة. فنظام الدفع عن طريق الهاتف لم يسهّل الأمور على المشترين والتجار فحسب، بل يسر سبل المعيشة أيضا لبعض الشرائح الأكثر فقرا في البلاد.
ختاماً :
لذلك لا داعي لأن نستعجل رفض ما نجهله حتى الآن، فعلى الأقل دعونا نجرّب الانخراط في عالم الدفع الإلكتروني – الذي نعتقده ضرورياً ومريحاً – ومن ثم نقرر الاستمرار به أو الإقلاع عنه، فبدلاً من الذهاب إلى مركز الهاتف لدفع الفاتورة ، وإلى مركز الكهرباء والماء لدفع فاتورتهما أيضاً فبإمكاني دفع تلك الفواتير عبر الدفع الالكتروني وأنا جالس أستريح في البيت، أو في أي مكانٍ آخر، دون أي عناء ودون أي انتظار في حالة الازدحام، فما الضرر في ذلك ..؟!
( سينسيريا )