اكتناز كلي عرقلَ التشغيل والاستثمار ورفعَ أسعار الصرف والمعادن الثمينة في سورية..!
الدكتور عامر خربوطلي
كلمة يكثر تداولها في الوقت الراهن رغم كونها مصطلحاً اقتصادياً ليس بالجديد وقد تم اعتماده في نظرية (كينز) الشهيرة إبان أزمة الكساد العالمي الكبير عام 1929.
الاكتناز بالمطلق أمر اقتصادي سلبي ومضر بحركة الاقتصاد، إنه تعطيل للأموال وتكديسها نتيجة حالة الخوف والترقب والذعر والتحوط في بعض الأحيان أو نتيجة عدم وجود قنوات مغرية للاستثمار والإنتاج والتشغيل.
وعندما تزداد ظاهرة اكتناز الأموال سواءً بالعملة المحلية أو الأجنبية الصعبة كما يقال أو المعادن الثمينة فهي ظاهرة سلبية تساهم في تراجع معدلات النمو الاقتصادي وحدوث الركود لانعدام الاستثمار المباشر وغير المباشر.
فهل يعاني الاقتصاد السوري من تزايد حالات الاكتناز إنه سؤال مفتوح للمناقشة وقبل ذلك لابد من تسليط الضوء أكثر على هذه الظاهرة من ناحية التعريف والتحليل لطالما كان الاكتناز مشكلة ومصدر قلق للعديد من الاقتصاديين، لاسيما بعد الثورة الصناعية وما تلاها من انجازات وحصول وفورات كبيرة في الدخول الخاصة بعناصر الإنتاج، وتعاملت كل نظرية اقتصادية مع الاكتناز بشكل مختلف عن ما تناولته باقي النظريات فأصحاب النظرية الكلاسيكية على سبيل المثال اعتبروا أن الاكتناز يساوي صفر، أو معطل أو غير موجود بسبب أن الاستخدام الكامل للموارد كان في تلك الفترة متحققاً في الاقتصاد إذ ليس من السليم القول بأن هناك استخدام أمثل لجميع الطاقات والموارد الاقتصادية في ظل وجود الاكتناز وإلا فالتناقض يصبح واضحاً.
إلا أنه وبعد أزمة الكساد العظيم التي حدثت في العام 1929 وما تبعها من فشل للطروحات الكلاسيكية التي كانت أفكارها ونظرياتها سائدة في معظم أوروبا والعالم لما يناهز الـ 100 عام أصبحت النظرة للاكتناز معطلة وأن الاكتناز قد لا يساوي صفر أو أنه غير موجود بل إن هناك أرصدة مالية مجمدة لا تقوم بدورها في الاقتصاد.
وهذا ما فسره فيما بعد الاقتصادي الانكليزي (جون مينارد كينز) إذ بين أن النقود تطلب لثلاث غايات هي الطلب بدافع المبادلة والطلب بدافع الاحتياط والطلب بدافع المضاربة وهو ما أشار إليها من أن الاكتناز يحدث من خلال الطلب بدافع المضاربة عبر الاحتفاظ بالأرصدة النقدية لمدة من الزمن من أجل تحقيق مكاسب غير مؤكدة عبر المضاربة.
ومن أجل معالجة هذا الخلل وجد الاقتصاديون أن الطريقة الأفضل في تحجيم الاكتناز وتقليل أضراره هو بخلق وبناء جهاز مصرفي متطور يعمل على استقطاب وجذب هذه الأرصدة النقدية عبر الفائدة الممنوحة على هذه الأرصدة كادخارات في هذه المصارف ومن ثم تحويلها إلى استثمارات مختلفة للبلد أو الاستثمار في أسواق البورصات والأسهم والسندات.
والتساؤل المهم يتمثل في هذا التخوف من الاكتناز والتحذير من مخاطره؟ ما يجب قوله هنا هو أن الاكتناز حالة سلبية لا تحدث بين جميع شرائح المجتمع فالطبقات الفقيرة يكاد الاكتناز يكون لديها معدوماً وكذلك الحال بالنسبة لطبقة ذوي الدخل المحدود فالمتبقي من دخلها بعد طرح الاستهلاك لا يصل إلى أن يكون اكتناز أكثر من كونه ادخاراً شخصياً للطوارئ وهذا لا يدخل ضمن نطاق الاكتناز.
وعليه فالاكتناز يحصل عند الطبقات الغنية التي تحقق أرباحاً كبيرة ودخولاً عالية وباكتنازهم لهذه الأموال فإنهم يحرمون المجتمع والاقتصاد من الاستفادة منها في إقامة المشاريع وفي خفض البطالة والتأثير على الأسواق والمتغيرات الاقتصادية الأخرى.
وينبغي هنا التفريق بين الاكتناز والادخار فالثاني هو عملية مؤقتة وإيجابية ومفيدة بالمفهوم الاقتصادي فهو بمثابة استثمار مؤجل وقيد التجهيز ليتحول إلى مصدر للاستهلاك أو الاستثمار، أما الاكتناز فهو عملية عقيمة اقتصادياً إضافة لآثارها السلبية على الفرد والمجتمع بما يحدثه من تجميد للمدخرات فيعطل المال ويجعله بعيداً عن التداول والتنمية.
وأغلب المكتنزين عادةً يحبسون المال بانتظار المضاربة لتحقيق أرباح مستقبلية من خلال عمليات استثمارية أو تجارية قد تظهر فجأة ومنها عدم استقرار أسعار الصرف والذهب أو الاسهم.
ويكثر الاكتناز زمن الأزمات والركود وتشير مفاهيم الاقتصاد الإسلامي إلى أن بقاء أي جزء من الأموال خارج العملية التنموية الاقتصادية من الأمور المحرمة طبقاً لأية الاكتناز في القرآن الكريم لأن غاية المال الإنفاق والاستهلاك والاستثمار وليس الحبس.
ما يهمنا أخيراً من هذا العرض أن الاقتصاد السوري يعيش حالة (اكتناز) غير مسبوقة ولكن على مستوى الدخول غير المحدودة لأن الطبقات الأخرى يذهب جميع دخلها نحو الاستهلاك وتستدين فوقه لتدبير أمورها المعيشية الصعبة.
وهذا ما يفسر تراجع حركة التشغيل والعمالة والاستثمار وهذا ما يفسر حالة ارتفاع أسعار الصرف والمعادن الثمينة بفعل المضاربة وهي عملية اقتصادية غير محمودة.
ولكن هل اكتناز الأفراد الميسورين هو المشكلة فقط.
إننا اليوم أمام حالة من الاكتناز الكلي غير المبرر عبر تراكم الأموال المجمدة في المصارف والمؤسسات المالية وصناديق الجمعيات والمؤسسات الأهلية والتي لا تستخدم في عمليات الإقراض أو التشغيل الإنتاجي أو الخدمات والنشاطات.
إنها كتلة هائلة من الأموال الهائمة في بحر مضطرب من الصعوبات والأزمات فهل نرى قريباً من التشريعات والمناخات الجاذبة للاستثمار والادخار والاستهلاك وتحويل الأمواج الاقتصادية لقوة نشيطة وإيجابية ودافعة نحو انتعاش اقتصادي جديد..؟
حديث الأربعاء الاقتصادي رقم (120) من العيادة الاقتصادية السورية – دمشق في 10/3/2021.. فيسبوك Syrian Economic Clinic