جديد 4E

في ظلال عيد المرأة .. الثأر .. الحيار .. عادات بادت ثم عادت

عادات وتقاليد بالية اندثرت بسبب التطور والحرمة الشرعية لكنها بدأت بالظهور بسبب غياب الدولة وسيطرة المجموعات المسلحة

الثأر يعود ويُـزْهِـق أرواح العديد من النفوس البريئة

(الحيار) يُـبْـعَـث من جديد ويودي بحياة أم في عرس ابنها

الكاتبة الصحفية ميس خليل العاني: من أسباب انتشار الثأر العولمة والجرم الإعلامي الذي ينشر صوراً لعمليات قتل بشعة

العاني: للمجموعات المسلحة  دور كبير في زرع وتفريخ قضايا الثأر في المجتمعات التي تسيطر عليها

الباحثة الإسلامية ربيعة المسيري: عادة الثأر من عادات الجاهلية الأولى التي ظهرت نتيجة لقصور التمسك بأحكام الإسلام

المسيري: المرأة تلعب دوراً كبيراً في تأجيج نيران الثأر لإحساسها بالذل الناتج عن سطوة الرجل في مجتمعنا العربي

الباحث حميد الوائلي:  ثقافة الثأر موجودة لدى جميع المجتمعات الإنسانية وهي تتعنون بعنوان القانون فتكون قصاصاً وبعنوان الانتقام فتكون ثأراً

الأب كبرئيل خاجو: أمر المسيح بعدم الانتقام من منطلق رجائنا وثقتنا بأن الله صالح وعادل وأنه سيتعامل بعدله مع كل الشرور

الأب كبرئيل : عادة الانتقام والأخذ بالثأر لا تؤدي بنا إلى نتيجة بل تؤجج النزاعات والصراعات في المجتمع .. ومن رسالة بولس إلى أهل رومية : لا تدع الشر يغلبك بل إغلب الشر بالخير

الداعية علاء الدين حسن: لا يوجد قانون في العالم أو شرع سماويّ أو وضعيّ يبرِّر جريمة القتل ثأراً

حسن: ينبغي العمل على تخليص المرأة مِن قيود العادات والتَّقاليد والموروثات الشَّعبيَّة المتخلِّفة ولاسيما (الحيار)

المحامي اسماعيل الزبيدي: الثأر يحطم القوة البشرية للأسرة ويستنزف المجتمع والدولة وهو من وجهة نظر القانون جريمة

الزبيدي: لـيـس للولي أن يـُجـْبـِر الـفـتاة عـلى نكاح من لا ترضاه وليس له أن يعـضلها  عـن نكاح من ترضاه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العلاج يكمن في سيطرة الدولة وتطبيق القانون على الجميع سواسية

*السلطة الرابعة ــ خليل اقطيني:

خليل اقطيني

*أيا ثارات خليف

ما إن خرج عبود من مناطق سيطرة الجيش العربي السوري وأصبح في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة، حتى شعر بشخص ما يلاحقه، فحث الخطى سريعاً علّـه يفلت من ذلك الشخص خشية وقوع ما لا تحمد عقابه كونه مطلوب في قضية ثأر.

وبينما كان يبحث عن ملاذ آمن يلجأ إليه كونه شعر بالخطر يحدق به، حتى فاجأه شخص بالسؤال: شلونك عبود؟. وقبل أن ينتهي من الرد بالحمد لله. ومن ثم الاستفسار عن هوية السائل: منو أنت أخوي؟. حتى صاح به ذلك الرجل: أيا ثارات خليف. وسحب مسدسه من خاصرته وأفرغ جميع الطلقات الموجودة فيه في جسد عبود. هرول الناس نحو مصدر صوت إطلاق النار ليجدوا عبود مضرجاً بدمائه وفوقه رجل يحمل بيده مسدساً وهو يصيح بهم بأعلى صوته: لا أحد يتدخل. ثار ثار.

فعرف الناس أن إطلاق النار كان من أجل الأخذ بالثأر، وأن القتيل قُـتِـل من ذلك الشخص أخذاً بالثأر..!

أرواح كثيرة زهقت بسبب العادات السيئة

وبينما كان الناس يتهامسون وهم يراقبون المشهد المأساوي أمامهم، انسل القاتل واختفى بلمح البصر لا أحد يعرف إلى أين. وبقي الناس ينظرون إلى جثة عبود مرمية في الشارع بانتظار وصول الجهاز الأمني للمجموعات المسلحة المسيطرة على المنطقة، وهم يتساءلون هل من المعقول عودة عادة الثأر إلى الظهور من جديد بعد أن كادت أن تنقرض من المحافظة؟. ولاسيما أن السكان أصبحوا كثيراً ما يسمعون عن جرائم قتل تقع في مختلف أنحاء المحافظة أخذاً بالثأر.    

*إما لي أو للقبر

وفي قرية أبو خشب، في ريف الحسكة الجنوبي، لقيت امرأة حتفها إثر إصابتها بطلق ناري أثناء حفل زفاف أحد أبنائها وذلك نتيجة مشاجرة تسببت بها عادة (الحيار). 

وذكر شهود عيان للسلطة الرابعة إن مشاجرة حدثت بين أهل العريس وأهل العروس أثناء حفل الزفاف، بسبب رفض ابن عم العروس زواجها من غيره، وقيامه (بحيارها) له، أي منع زواجها من أي شخص آخر سواه سواء رضيت بذلك أم لم ترضَ. الأمر الذي دفع ابن عم العروس (المحيـّر) إلى سحب مسدسه وإطلاق النار على أهل العريس ما تسبب بمقتل المرأة، وإصابة أحد أبنائها وشخص آخر بجروح.  

فوضى السلاح سبب أساس في انتشار الجرائم

وقال الطبيب الشرعي في الحسكة الدكتور محمد سعيد شلاش للسلطة الرابعة: إن المرأة التي لقيت حتفها في حفل الزفاف تدعى رغدة حسن الدهام، وتبلغ من العمر 50 عاماً، وقد توفيت بسبب حدوث نزيف ناتج عن إصابتها بطلق ناري في الفخذ الأيمن، أدى إلى حدوث نزيف صاعق في الشريان الفخذي. كما أصيب ابنها باسل احمد البالغ من العمر 20  عاماً برصاصة في الساق اليسرى وقريبه سامر الحميدي بجروح.

و(الحيار) هـو أن يفـرض أحد أبناء العمومة عـلى ولي فـتاة ما عـدم تزويجها إلاّ منه. والعـُرف يقضي عـندئذ أن تبقى الفـتاة عـالة عـلى أهـلها إذا رفضت ابن العم  المذكور زوجاً لها، حتى تدخل سن الـيأس أو يموت أحد  الطرفـين. وكم من فتاة بقيت دون زواج حتى مماتها بسبب عادة (الحيار)، ورَفْـض أحد أبناء عمومتها زواجها من غيره  أو تبقى عازبة مدى الحياة، إن لم توافق على الزواج من ابن عمها الذي يسمى (المُحَـيـّر). أي أنه بسبب هذه العادة إما أن تكون الفتاة لابن عمها أو تبقى دون زواج حتى الموت، فهي إما له أو للقبر.  

*بادت ثم عادت

والثأر والحيار من العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في المناطق الشرقية من سورية في السنوات الماضية، لكنها بادت وانقرضت بفعل التطور الذي شهدته المحافظة، وانتشار التعليم، ووجود سلطة الدولة التي تمنع مثل هذه العادات السيئة، التي تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة وعلى رأسها الثأر والحيار نتيجة المشاكل والجرائم العديدة التي تسببت بها. عدا عن كونهما محرمتان من الناحية الشرعية والدينية، فالثأر قتل وقد حرم الله عز وجل القتل وأحل القصاص، والفرق بين الحالتين أن القتل أخذاً بالثأر يقوم به الأشخاص بمفردهم دون أي محاكمة أو دليل ودون أن يكون القتيل هو القاتل في الحالة الأولى والذي يجب أن يقام عليه الحد قصاصاً لما اقترفه من قتل. إذ قد يكون شقيق القاتل أو ابن عمه كما جرى العرف والعادة. في حين أنيط القصاص بولي الأمر أي الدولة والقضاء، بعد محاكمة عادلة للشخص المتهم بالقتل.

انتشار كبير للجرائم في مواقع المسلحين

أما بالنسبة لعادة الحيار فهي الأخرى مخالفة للدين والشرع الذي يرفض زواج الفتيات بالإكراه دون موافقتهن، ويشترط رضاهن شخصياً على الزواج لكي يتم ويصبح صحيحاً من الناحية الشرعية. حيث راعت الشريعـة الإسلامية السمحاء حرية الاختيار بين الرجل والمرأة. إذ أعـطت للرجل الحق في أن يختار المرأة التي تلائمه من الناحية الاجتماعـية والاقتصادية. كما أنها أعـطت للمرأة أيضاً حرية اخـتـيـار الزوج الذي يناسبها. جاء في قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الذين  آمنوا لا يَحـِل لكم أن ترثوا النساء كـُرهاً). وهذا نهي واضح عـن نكاح المرأة بغـيـر  رضاها.

لكن نتيجة لخروج العديد من المناطق عن سيطرة الدولة ووقوعها تحت سيطرة المجموعات المسلحة عادت تلك العادات البالية لتظهر وتسود من جديد.

*أولاً: الثأر

وفي هذا التحقيق الصحفي نحاول تسليط الأضواء على عادتي الثأر والحيار من مختلف الجوانب. ما هما وما هي أسباب انتشارهما وما هي طرق مواجهتهما وعلاجهما وما هو موقف الدين والقانون منهما؟. عن هذه الأسئلة وغيرها سيجيبنا المشاركون في هذا التحقيق الصحفي.

ميس خليل العاني

*والبداية مع الكاتبة الصحفية الزميلة ميس خليل العاني التي قالت: إن ظاهرة الثأر من الظواهر الاجتماعية التي تحتاج لدراسات شاملة وعميقة لها، ولهذا نجد ندرة في الدراسات المتخصصة التي تتناول هذه الظاهرة تناولاً شاملاً من حيث الأبعاد: التاريخية، والجغرافية، والدينية، والاجتماعية، والقَبَلِيَّة، والسياسية، والجنائية، والقضائية، والنفسية، وغيرها من الأبعاد التي ترتبط بهذه الظاهرة الخطيرة.

ونظراً لندرة المصادر؛ وشح المراجع؛ ولأن ظاهرة الثأر تحتاج لدراسات ميدانية ومعايشات واقعية؛ ولصعوبة التقاء العينات الحقيقية والواقعية للثأر؛ ونظراً لنفور أصحاب الثأر من المقابلات الصحفية والالتقاء بالدارسين والباحثين، ولتفضيلهم أن تظل قضاياهم بعيداً عن الأضواء؛ ولوجود محظورات أمنية حول البحث في بعض القضايا، ولوجود اتجاهات ودوافع سياسية معينة لدى القوى التي تحكم المناطق التي تنتشر فيها ظاهرة الثأر؛ ولوجود قوى قبلية لها حساباتها الخاصة؛ نظراً لجميع الأسباب السابقة ترى الزميلة العاني إن دراسة ظاهرة الثأر تحيطها المصاعب من جميع الجوانب والاتجاهات.

وتقول إن العصبية القبلية والطائفية تلعب دوراً هاماً في تجذير ظاهرة الثأر في المجتمعات التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة نظراً لقيام هذه المجموعات بتشجيع القبلية والعشائرية والطائفية، فمن الملاحظ أن المناطق التي تقوى فيها العصبية القبلية والطائفية وترتفع أهمية الانتماء القبلي والطائفي فيها، فإن نسبة الثأر تكون أكثر ارتفاعاً من المناطق التي تقل فيها العصبية القبلية والطائفية.

 كما اتخذت المجموعات المسلحة من ظاهرة الثأر عصا غليظة لكسر شوكة القبائل والطوائف وترويضها، فضربت بعضها ببعض. 

وتُـبَـيّـن: أن من أسباب انتشار الثأر العولمة والجرم الإعلامي الذي ينشر صوراً لعمليات قتل بشعة حدثتفي كافة أرجاء الوطن العربي والعالم منذ أحداث 11 أيلول / سبتمبر، التي أعقبها محاربة الغرب لتلك الجماعات التي كان ردها نشر فيديوهات قتل بشعة، كما أن الدراما والأفلام التي تتناول المجتمع الريفي في البلاد العربية تنشر مشاهد قاسية، وتمثل خروجاً عن القواعد والأعراف والمبادئ المتعارف عليها قديماً في أخذ الثأر، إضافة إلى غياب الإرشاد الديني وترك أبناء الريف أسرى ثقافة متشددة في الأخذ بالثأر.

أسباب الثأر

وتضيف الزميلة العاني: يرى الكثير من الباحثين والمهتمين بقضايا الثأر أن للمجموعات المسلحة  دور كبير في زرع وتفريخ قضايا الثأر في المجتمعات التي تسيطر عليها، وذلك لكسب ولاءات قبلية جديدة، أو لإقامة تحالفات جديدة، أو لضرب مجموعات مسلحة منافِسَة. حيث تسعى المجموعات المسلحة لزرع الفتن والقلاقل وسط السكان لتشغلهم عن موضوع السلطة، وهذا الأمر ينطبق على الحالة السورية تماماً.

وتؤكد أن للثأر أسباباً عديدة في المناطق التي تنتشر فيها المجموعات المسلحة، أهمها:  

1ــ النزاعات والخلافات الجغرافية.

2ــ انتشار السلاح.

3ــ ضعف الوازع الديني.

4ــ غياب الدولة المركزية.

5ــ ضعف أداء الجهاز الأمني، وضعف الجماعات المسلحة في ضبط الجناة الذين يقومون بقتل الغير. وفي محافظة الحسكة على سبيل المثال هناك الكثير من الجرائم التي وقعت في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة ولم يتم كشف مرتكبيها، من ذلك جريمة قتل الباحث الدكتور سهيل عروسي في شقته التي حصلت منذ سنوات ولم يتم القاء القبض على الفاعلين لهذه الجريمة البشعة التي هزت يومها أركان محافظة الحسكة برمتها. وغير ذلك من جرائم القتل والسرقة والسلب والخطف.

6ــ ضعف أداء جهاز القضاء، وغياب العدل، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية، وضعف تطبيق سلطة القانون.

7ــ  الحروب القبلية والطائفية.

8ــ عدم القبول بالترافع أمام أجهزة القضاء وعدم الإبلاغ عن أسماء الجناة.

9ــ اتساع قضايا القطاع القبلي والطائفي .

10ــ مبدأ التكايل بالدم والذي كان مبدأً جاهلياً انتشر بين أهل الجاهلية.

11ــ انتشار ظاهرة الرُّبَاعَة القبلية، أي أن يَفِرَّ القاتلُ إلى قبيلة أخرى فَيَتَرَبَّعُ بها، أي يلتجئ إليها ويطلب حمايتها. مع العلم أن من الأعراف القبلية أعراف وعادات حميدة، وفي هذه الحالة يطلق على هذا الرجل الطالب للرباعة اسم: ربيع، والربيع نوعان: ربيع الغَوَى، ورَبِيع السَّوَى، أما الأول (ربيع الغَوَى) فهو الظالم المخطئ الذي يطلب الحماية، وأما الثاني (ربيع السَّوَى) فهو المظلوم المغلوب على حقه.

12ــ العصبية القبلية وانتشار بعض الأعراف والعادات القبلية السيئة الأخرى، ومنها: قتل غير القاتل.

وغير ذلك من الأسباب الثانوية.

علاج ظاهرة الثأر

وتقول أنه لعلاج ظاهرة وعادة الثأر لابد من القيام بالعديد من الخطوات. أهمها:

1ــ تعزيز الوازع الديني لدى الأفراد.

2ــ سيطرة الدولة بكافة مؤسساتها الأمنية والقضائية وقيامها بواجباتها تجاه المجتمع.

3ــ تعزيز دور الجانب الأمني.

4ــ تفعيل دور جهاز القضاء، وتطهيره من الفساد الإداري والسياسي، وتمكين أجهزة العدالة من القيام بواجباتها ومهامها بعيداً عن الضغوط القبلية والسياسية.

5ــ القضاء على ظاهرة حمل السلاح ، من خلال تنظيم حمل وحيازة السلاح.

الثأر لا يتقادم بتقادم السنوات

وتقول الباحثة المتخصصة بالدراسات الاسلامية ربيعة المسيري: تعد ظاهرة الثأر من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة بين الناس قبل الإسلام. فقد عرف أصحاب الجاهلية أن الثأر لا يتقادم بتقادم الزمان والسنوات استناداً لقول أحد الشعراء الجاهليين:

وَقَدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَىْ عَلَىْ دِمَنِ الثَّرَىْ      ***  وَتَبْقَىْ حَزَازَاتُ النُّفُوْسِ كَمَا هِيَ 

الباحثة : ربيعة المسيري

والبيت من البحر الطويل لشاعر أُمَوِيّ يُدعَى أبو الهذيل، هو حسب الوافي بالوفيات للصفدي: زُفَـر بن الحارث بن عمرو بن معاذ الكِلاَبِيّ (? – 75 هـ / ? – 695م) ، وهو أمير، من التابعين، من أهل الجزيرة السورية التي تضم محافظتي الحسكة والرقة أو المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات شمال شرق سورية، كان كبير قيس في زمانه، شهد صِفِّينَ مع معاوية أميراً على أهل قِنِّسْرِيْنَ، وشهد وقعة مَرْجِ رَاهِط مع الضحاك بن قيس الفِهْرِيّ، وقُتِلَ الضحاكُ، فهربَ زُفَـرُ إلى قَرْقِيْسِيَا (عند مَصَبِّ نهر الخَابُور في نهر الفُرَاتِ وتسمى الآن البصيرة). وبقي متحصناً فيها حتى مات، وكانت وفاته في خلافة عبد الملك بن مروان، قالَ البغداديُّ: في بضعٍ وسبعين.

والدِّمَنُ التي وردت في بيت الشعر معناها الأَبْوَالُ وَالأَبْعَارُ التي َتكُوْنُ وَرَاءَ الْبُيُوْتِ، فَإِذَا جَاءَ عَلَيْهَا الْمَطَرُ أَعْشَبَتْ. ومعنى البيت: يقول: تحتَ الظاهرِ مِنَ البِشْرِ الحِقْدُ والسَّخِيمَةُ، وهكذا الدِّمَنُ الذي يظهر فوقَهُ النَّبْتُ مُهْتَزَّاً وتحتَهُ الفسادُ.

أما الْحَزَازَاتُ فهي جَمْعُ حَزَازَةٍ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِيْ الصِّحَاحِ ــ مادة: حزز: الْحَزَازَةُ : وَجَعٌ فِيْ الْقَلْبِ مِنْ غَيْظٍ وَنَحْوِهِ. ضَرَبَهُ مَثَلاً لِرَجُلٍ يُظْهِرُ مَوَدَّةً وَقَلْبُهُ نَغِلٌ بِالْعَدَاوَةِ.

*من عادات الجاهلية الأولى

وتضيف الباحثة المسيري قائلة: وهذه امرأة جاهلية تذكرنا بأن عادة الثأر هي أصلاً من عادات الجاهلية الأولى التي ظهرت نتيجة لضعف أو لقصور التمسك بأحكام الدين الإسلامي حيث تقول:

يَا خَيْرَ مُعْتَمَدٍ وَأَمْنَعَ مَلْجَأٍ***  وَأَعَزَّ مُنْتَقِمٍ وَأَدْرَكَ طَالِبِ
جَاءَتْكَ وَافِدَةُ الثَّكَالَىْ تَغْتَلِيْ  ***   بسَوَادِهَا فَوْقَ الْفَضَاءِ النَّاضِبِ
هَذِيْ خَنَاصِرُ أُسْرَتِيْ مَسْرُوْدَةً                 *** فيْ الْجِيْدِ مِنِّيْ مِثْلَ سِمْطِ الْكَاعِبِ

فهي قد قَطَعَتِ الأصابعَ الصِّغَارَ للقَتْلَى وسَوَّتْهُنَّ عِقْدَاً في رَقَبَتِهَا مِنْ أجل إثارة الحَمِيَّة في قَومِهَا ليثأروا لمن قُتِلَ منهم.

وتُـبَـيّـن أن الشِّعرُ من البحر الكامل لشاعرة تُدعَى: خُوَيلَة الرِّئَامِيَّة (90 – 20 ق.هـ / 535 – 603م)، وهي حسب ما ورد في الجزء الأول من  الأمالي لأبي علي القالي شاعرة جاهلية، عجوز من بني رِئَام من قُضَاعَة، وكانت لها أَمَة من مُوَلَّدَات العرب تسمى زَبْرَاء، وكان عند خُوَيلَة أربعون رجلاً كلهم لها مَحْرَم، بنو إخوة وبنو أخوات، وكانت خُوَيلَة عقيماً، وكان بنو ناعب وبنو داهن متظاهرين على بني رِئَام، فاجتمع بنو رئام ذات يوم في عرس لهم وهم سبعون رجلاً كلهم شجاع بَئِيس، وكانت زَبْرَاء كاهنة فقالت لخُوَيلة: انطلقي بنا إلى قومك أُنْذِرُهُمْ، فانطلقَتْ خُوَيلَة تتوكَّأُ على زَبْرَاءَ إلى القوم، فَأَنْذَرَتْهُمْ زَبْرَاءُ، ولكنهم لم يصدقوها، وارتابَ قومٌ من ذوي أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلاً وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو ناعب وبنو داهن فقتلوهم أجمعين، وأقبلت خُوَيلَة مع الصباح فوقَفَتْ على مصارعهم، وعمدت إلى خَنَاصِرِهِمْ فَقَطَعَتْهَا، واِنْتَظَمَتْ منها قِلاَدَة وألقتها في عنقها، وخرجَتْ حتى لحقت بابن أختها مَرْضَاوِيِّ بن سَعْوَة المَهْرِيِّ، فقالت تُحَرِّضُهُ على الانتقام:

يَا خَيْرَ مُعْتَمَدٍ وَأَمْنَعَ مَلْجَأٍ ***  وَأَعَزَّ مُنْتَقِمٍ وَأَدْرَكَ طَالِبِ
فخرجَ عليهم حتى أوجعَ فيهم.

هذا في الجاهلية، لكن ما إن أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة، حتى قضى على هذه الظاهرة وشرع القصاص، حيث يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى. ذلك أن من يؤجج رغبة الثأر في المجتمع هو العادات والتقاليد القبلية المنبوذة ونعراتها بين مختلف القبائل والعشائر والعائلات فيما بينها، وغياب الدولة.

*دور المرأة في الثأر

وبناء على ما سبق تثير الباحثة المسيري نقطة في غاية الأهمية تتعلق بانتشار عادة الثأر قائلة إن المرأة تلعب دوراً كبيراً في تأجيج نيران الثأر، لإحساسها بالذل الناتج عن سطوة الرجل في مجتمعنا العربي، فهو يفرح بالطفل الذكر أكثر من الطفلة الأنثى، ولا يأخذ رأيها في أمور تخصها مثل الزواج، ولهذا أول شيء تريد أن تفعله هو الانتقام من الرجل.

من هنا فإن مقاومة الثأر تبدأ بتطبيق القانون، ولابد من قيام المؤسسات الدينية بالتعريف بالفرق بين القصاص والانتقام، وعليها أن تقوم بذلك بعدة حملات ومتابعتها في كافة أرجاء البلاد العربية وخاصة في المناطق التي تشهد عنفاً بشعاً، والقصاص يكون بقتل الشخص الذي تورط في جريمة قتل، أما الانتقام فهو ما يحدث في الثأر في مجتمعاتنا العربية هو أن يُقتل ابن عم القاتل أو رمز من رموز العائلة أو القبيلة أو العشيرة، فذلك يجعل العنف والثأر شاملاً يطال كل من له علاقة بالقاتل أو المقتول بشكل عشوائي، لا بد أن يعرف الناس أن القصاص حلال وأن الانتقام حرام، وأن الثأر لم يشرّعه الله سبحانه وتعالى.

وذلك لأن غياب الإرشاد الديني الصحيح من جهة، وبطء القضاء الناجز في قضايا القتل من جهة ثانية، أسباب أدت إلى بشاعة القتل وخروج المتخاصمين والغارمين في الثأر عن العرف والقواعد المتوارثة التي ظهرت مع ظهور القبائل العربية.  وتؤكد الباحثة المسيري إن العلاج يكمن في تطبيق القانون، وأن يطبق على الجميع سواسية، خاصة في الأرياف دون محاباة للرموز أو ذوي النفوذ، لأن الظلم يولد عنفاً.

كما أن حصول المرأة في مجتمعنا على فرصتها من التعليم يسهم في تراجع أفكار الثأر بقوة السلاح. ومن شأنه الحد من أفكار الثأر.

والتنشئة هنا مهمة جداً للحد من الثأر، وتبدأ بالاهتمام بالأم، التي تتولى تربية النشء، فإذا كانت الأم غير متعلمة عادة ما تنجب أطفالاً يحملون فكرة العنف، أما إذا علّمت أولادها السلوك الحميد لا يمكنهم أن يتجهوا للعنف، فهي دائماً تبني للنهوض والسلم ونبذ الخلافات والتسامح والاحتكام للقانون، فكلما كانت المرأة متعلمة ستنهض بنفسها وبمجتمعها، وستبحث في هذه الحالة عن مستقبل أفضل لها ولعائلتها ولأبنائها.

*ثقافة الثأر لدى المجتمعات الإنسانية

أما الباحث حميد عبد الجليل الوائلي فيقول: ثقافة الثأر موجودة لدى جميع المجتمعات الإنسانية، نعم هي تتعنون بعنوان القانون فتكون قصاصاً وبعنوان الانتقام فتكون ثأراً، فلولا الثأر القانوني أو الانتقامي لما انتظمت الحياة ولأصبحت غابة، ولكان الطغاة والمجرمون والسرّاق هم السادة على البشرية.

نعم تجاوُزُ الحد في الانتقام خلَّف العديد من الكوارث في الصراعات وعلى جميع الجغرافيات. فإذا قرأنا التاريخ الإنساني فإننا لا نجد أي استثناء، فلم يخل زمان أو مكان من حوادث الثأر.

هجوم بيرل هاربور

حتى في التاريخ الحديث للأُمم التي تدّعي الرقي والتطور نجد حالات الثأر والانتقام بوضوح، ويكفي في هذا الصدد ما حصل من قبل الأميركيين مع اليابانيين والانتقام منهم بسبب الهجوم على (بيرل هاربور)، كما أن أغلب ما قام به النازي هتلر هو عمليات ثأر وانتقام لما لحق به من ذل وهوان في معاهدات سابقة، وهكذا لمن يتصفح تاريخ الأُمم الأوروبية، والأميريكية وغيرها سواء الحديثة منها أم القديمة.
ويتحدث الوائلي عن الثأر عند البوذية بقوله: تشير الأدلة إلى أن معظم دول جنوب شرق آسيا طبّقت عقوبة الإعدام قبل وقت طويل منذ نشوء البوذية وانتشارها في الهند في فترة (٤٠٠) إلى (٥٠٠) سنة قبل الميلاد).

(توموكو ساساكي)، وهو عضو سابق في البرلمان الياباني تناول موضوع القصاص بقوله: (يعد القصاص أحد التعاليم الأساسية في البوذية اليابانية، فإذا ما ارتكب شخص عملاً شرّيراً فعليه أن يكفّر عن ذلك من حياته، فإذا أزهقت روحاً فعليك أن تقدم حياتك مقابل ذلك).

يقول (شريلا برابهوبادا) مؤسس حركة (هاري كريشنا): إن السبب وراء معاقبة القاتل بالقتل هو كي لا يعاني في حياته الأخرى الذنب العظيم الذي اقترفه…).

وعن الثأر عند اليهود يقول الوائلي: يحتوي الكتاب المقدس والتلمود نصوصاً تعتبر عقوبة الإعدام أمراً مشروعاً وشائعاً، فهناك (٣٦) جريمة في الكتاب المقدس عقوبتها الموت، منها عبادة الأوثان، وتدنيس حرمة السبت، والزنا، وزنا المحارم، والدعوة إلى الردة. وتذكر الميشناه (السنهدرين) – أي محكمة العدل – وسائل وطرق تنفيذ الإعدام مثل القتل بالسيف والرجم والحرق والخنق.

* الثأر من منظور الدين المسيحي

أما عند المسيحيين فيشتمل الكتاب المقدس على العديد من الإشارات إلى القتل والجرائم التي عقوبتها الموت، أدخل القديس (أوغسطين) مفهوم الحرب العادلة، واستمر إضفاء الشرعية على عقوبة الإعدام في القرون الوسطى، وكان ممن دافعوا عنها القديس (توما الاكويني) من خلال طرحه لمفهوم المصلحة العليا للمجتمع، والذي يتطلّب قبول قدر من الشر، وبعد قرون عدّة حاجج (مارتن لوثر) أن مسألة الحياة والموت هي سلطة إلهية فوّضها الرب للسلطات السياسية وقد عارض تطبيق عقوبة الإعدام على الجرائم الكنيسية، كي لا تختلط أحكام الكتاب المقدس مع القوانين البشرية.

الأب كبرئيل خاجو كاهن كاتدرائية مار جرجس للسريان الارثوذكس بالحسكة

ويتحدث الأب كبرئيل خاجو ( كاهن كاتدرائية مار جرجس للسريان الارثوذكس بالحسكة ) عن الانتقام والثأر من منظور الدين المسيحي بقوله: الانتقام جزء من ثقافتنا في الشرق الأوسط. إذ يعتبر الانتقام عملاً ينم عن الرجولة. وغالباً ما نضع في تفكيرنا أن الجبان وحده هو الذي يسامح والقوي ينتقم.

ونحن نقرأ في إنجيل متى كلمات يسوع المسيح «سَمِعْتُمْ أنَّهُ قِيلَ: ‹العَينُ بِالعَيْنِ، وَالسِّنُّ بِالسِّنِأمَّا أنَا فَأقُولُ: لَا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ. بَلْ إنْ لَطَمَكَ أحَدٌ عَلَى خَدِّكَ الأيمَنِ، فَقَدِّمْ لَهُ الخَدَّ الآخَرَ أيْضً.” (متى 5: 38-39).

الانتقام هو النيل من أحد ما، عادة بأخذ الثأر بطريقة ما أو التسبب بأذى كرد فعل لشيء فعله بنا. رد الفعل الطبيعي للإساءة هي أن ننتقم. إن عاملنا أحد بسوء فإننا نريد أن تتم معاملتهم بالسوء أيضاً. إن شتمنا أحدهم فإننا نشتمه بالمقابل. إن ضربنا أحدهم فإننا نضربه بالمثل. كما أن عندنا القول «الدم بالدم».

الانتقام هو طريقتنا الطبيعية للاستجابة لألم حقيقي تعرضنا له أو تصورنا ذلك سواء كان لشخصنا أو ممتلكاتنا أو نحو أشخاص نحبهم.

ويوضح الأب خاجو: يعلم الكتاب المقدس الكثير عن الانتقام، وهو يعارض كل غرائزنا الطبيعية.

صدم يسوع المسيح مستمعيه الأوائل منذ ألفي عام عندما قلب موازين العالم للكراهية والانتقام رأساً على عقب أمَّا أنْتُمْ أيُّهَا السَّامِعُونَ، فَأقُولُ لَكُمْ: أحِبُّوا أعْدَاءَكُمْ، اصنَعُوا خَيْرًا مَعَ مَنْ يُبغِضُونَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ مُعَامَلَتَكُمْ (لوقا 6: 27-28). ولا تزال كلماته تصدمنا اليوم أثناء قراءتنا لها.

يعلم الكتاب المقدس أن علينا أن «لَا تَرُدُّوا لأَحَدٍ شَرّاً مُقَابِلَ شَرٍّ» و«لَا تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ ( رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 17، 19). هذه الوصية الغريبة بعدم الانتقام تنبع من محبة الله لنا.

أمر المسيح بعدم الانتقام أيضاً نابع من رجائنا وثقتنا بأن الله صالح وعادل وأنه سيتعامل بعدله مع كل الشرور. يتم تشجيعنا للعيش كما عاش المسيح واثقين بأن الله سيعاقب الشر بحق. «لَا تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ دَعُوا الْغَضَبَ لِلهِ، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: «لِيَ الانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ». وَإِنَّمَا «إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ، وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. فَإِنَّكَ، بِعَمَلِكَ هَذَا تَجْمَعُ عَلَى رَأْسِهِ جَمْراً مُشْتَعِلاً». لَا تَدَعِ الشَّرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ (رسالة بولس إلى أهل رومية 12: 19-21).

بولس الرسول

ويختم الأب خاجو قائلاً: قد يكون صعباً في بعض الأحيان أن نحب أعداءنا. لكن الله معك وهو يعطيك القوة التي تحتاجها في وقت احتياجك لها. وعلينا أن نعلم أن عادة الانتقام والأخذ بالثأر لا تؤدي بنا إلى نتيجة بل تؤجج النزاعات والصراعات في المجتمع، وتؤدي إلى نتائج لا تُحمَد عقباها. علينا دائما الاستماع إلى صوت العقل وتغليب المنطق في تصرفاتنا وردود أفعالنا، لنصل إلى بنيان صحيح وسليم لمجتمع تسوده المحبة والعقلانية والخير.

*الثَّأر وَموقفُ الشَّريعة الإسلامية

أما الباحث والداعية الإسلامي علاء الدين حسن فيتحدث عن موقف الشريعة الغراء من الثأر قائلاً: يُعَدُّ حفظ النَّفس مِن أهمِّ المقاصد الضَّروريَّة في الشَّريعة الغرَّاء:]مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعَاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعَاً[.وقال تعالَى: ]وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ[.

الباحث : علاء الدين حسن

وفي بعض السُّنن: (لقتلُ مُؤمن أعظمُ عندَ الله مِن زوالِ الدُّنيا). وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر(ر عنهما) قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: (لاْ يزالُ المؤمنُ فِي فسحَة مِن دِينه مَا لَم يُصِب دماً حراماً).

وفي الصَّحيحين بيَّن النَّبيُّ (ص) حرمة الدِّماء في حجَّة الوداع، فقال: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عَليكم؛ كحرمةِ يومِكم هَذا، فِي بلدِكم هَذا فِي شـهرِكم هَذا..). ونظراً لحرمة الدِّمـاء عند الله جلَّ وَعَلا، فإنَّ أوَّل ما يُقضَى فيه يوم القيامـة هو الدِّماء، ففي الصَّحيحين أنَّ النَّبيَّ (ص) قال: (أوَّلُ ما يقضَى فيه بين النَّاس يومَ القيامةِ فِي الدِّماء).

ولا تعـارض بين هذا الحديث، وبين قوله ص: (أوَّل مَا يحاسَـب بهِ العبـدُ الصَّلاة). فالصَّلاة حقٌّ بين العبد وربِّه، والدِّماء حقٌّ بين العباد بعضهم وبعض.

وفي صحيح مسـلم عن أبي هريرة (ر) أنَّ النَّبيَّ (ص) قال لأصحابه يوماً: (أتدرون مَن المفْلس؟). قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع. قال: (إنَّ المفلسَ مِن أمَّتي مَن يأتِي يومَ القيامةِ بصَلاة وَصيَام وَزكَاة، وَيَأتي وَقَد شتمَ هَذا، وَقذفَ هَذا، وَأكل مالَ هَذا، وَسفكَ دمَ هَذا، وَضربَ هَذا، فَيُعْطَى هَذا مِن حَسناته، وَهَذا مِن حَسناته، فإنْ فنيتْ حسناتُه قبلَ أَن يُقْضَي مَا عَليه، أُخذ مِن خَطاياهم، ثمَّ طُرح فِي النَّار).

ومِن صفات عباد الرَّحمن أنَّهم: ]لاْ يقتـلُون النَّفس الَّتي حرَّم الله إلّا بالحقّ[. ولكنَّ النَّاس مِن قديم، سوَّلت لهم أنفسهم الأمَّارة بالسُّوء أن يقتل بعضهم بعضاً، فقد قتل ابن آدم آخاه كما قصَّ علينا ذلك القرآن الكريم.

مِن هنا؛ فمَن أقدم على قتل غيره بغير حقّ، فلورثته القصاص مِن القاتل بالشُّروط المعتبرة شرعاً عن طريق ولاة الأمور، أمَّا أن يتعدَّى هذا على هذا، بغير نظام شرعيّ وبغير أمر شرعيّ، فهذا لا يجوز؛ لأنَّه يفضي إلى الفساد والفتن وسفك الدِّماء ظلماً، وهذا ما يُعرَف بـ (الثَّأر)، وهو أن يقوم «أقارب القتيل» بقتل القاتل نفسه، أو قتل أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم دون أن يتركوا لأولي الأمر حقَّ إقامة القصاص الشَّرعيّ.

*مِن أخطر الظَّواهر الاجتماعيَّة

ويؤكد حسن: أن ظاهرة الثَّأر تُـعَـدّ مِن أخطر الظَّواهر الاجتماعيَّة الَّتي عانت منها المجتمعات البشريَّة، وهي قديمة قِدَمَ الوجود البشريّ، وتُعتبر مِن أخطر ما يهدِّد سلامة وأمن وسكينة المجتمعات، وهي تعيق عمليَّة التَّنمية، وتؤدِّي إلى سفك دماء كثير مِن الأبرياء، وإلى قيام العديد مِن الحروب والنِّزاعات القبليَّة، كما تفتح أبواباً مِن القتل والقتل المضادّ بين الأطراف المتخاصمة، ويؤسِّس لسلسلة مِن حلْقات مِن الدِّماء المسفوكة لا تتوقَّف، وكثيراً ما يطال القتل إلى مَن لا يستحقُّه.

وربُّنا جلَّ جلالُه عندما شرع القصاص، فقد جعله حياة للنَّاس وراحة لأهل القتيل وعقوبة للقاتل وسلاماً للمجتمع، ومَن قُتل له قتيل عليه أن يسعى لتحصيل حقِّه ضمن القانون المتاح في بلده، حتَّى – وإن لم يضمن له كامل حقوقه – فهو أفضل مِن إشعال نار قتل ودماء لا يعلم مداها ومضاعفاتها إلّا الله.

وجميع الشَّرائع السَّماويَّة نَصَّتْ على عقوبة الْقِصَاصِ: ]وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ[. وقد تَوَعَّدَ الله تعالَى مرتكب هذه الجريمة بالعقوبة المناسبة: ]وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيْهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَاً عَظِيْمَاً[.

ولا يوجد أيّ قانون في العالم أو أيّ شرع سماويّ أو وضعيّ يبرِّر جريمة القتل ثأراً؛ ولذلك ندعو إلى البعد عن ظاهرة الثَّأر؛ لأنَّ هذه الظَّاهرة تخرج صاحبها مِن حظيرة الإيمان, ولننظر إلى رسول الله صلَّى الله عليهِ وَسلَّم وهو القدوة الحسنة، فما انتقم لنفسه قطّ، و لا دعا أو حرَّض على انتقام أو ثأر إلّا لعزَّة الله وإعلاء كلمة الحقّ.

*القصاص لا يصدر إلّا مِن الحاكم

وأشار حسن إلى أن الحكم بالقصاص لا يصدر إلّا مِن الحاكم أو وليِّه عند تحقُّق شروط تنفيذه، ولا يجوز لأولياء المقتول المبادرة إلى قتل القاتل دون أن يصدر بشأن ذلك أمر مِن القضاء الشَّرعيّ يمكِّنهم مِن ذلك.

فإن عفا أهل القتيل أو أحدهم عن القاتل، سقط القصاص عنه ووجبت عليه الدِّية. قال تعالَى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[.

ويستشهد بقول البيضاويّ في “تفسيره: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومَاً) غير مستوجب للقتل (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ)؛ للَّذي يلي أمره بعد وفاته، وهو الوارث ﴿سُلْطانَاً﴾؛ القصاص على القاتل؛ ﴿فَلا يُسْرِفْ﴾؛ بأن يقتل مَن لا يستحقّ القتل؛ فإنَّ العاقل لا يفعل ذلك.

والله تعالَى يقول: ]وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[. قال ابن عبَّاس رضيَ الله عنهُما في تفسيرها: “لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره”.

وقال البيضاويّ في “تفسيره” للمُقْتَصّ أن يُماثِلَ الجاني، وليس له أن يجاوزه، ]وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ[ مِن الانتقام.

وكذلك فإنَّ القاعدة الشَّرعيَّة تقول: “إنَّ الضَّرر لا يُـزال بالضَّرر”؛ فإذا كان أهل المقتول قد تضرَّروا بقتل قريبهم، وأصابتهم المرارة ولحقتهم الأحزان، فلا يعطيهم هذا مبرّراً مقبولاً في أن يُداوُوا مراراتهم بإلحاق الضَّرر بالأبرياء الَّذين لا ذنب لهم ولا جريرة فيما وقع للمقتول.

كما أنَّ هناك مفسدة أخرى جرَّاء عادة الثَّأر، وهي التَّعدِّي والافتيات على وليِّ الأمر في شيء مِن صلاحيّاته الَّتي رتَّبها له الشَّرع وفوَّضه فيها دون غيره، وهو الاختصاص باستيفاء العقوبات.

   والافتيات على وليِّ الأمر بوجه عامٍّ محرَّم؛ لأنَّه تَعَدٍّ على حقِّه بمزاحمته فيما هو له، هذا مِن جهة، وتَعَدٍّ على إرادة الأمَّة الَّتي أنابت حاكمها عنها في تدبير شؤونها مِن جهة ثانية.

*موقف القانون من الثأر

المحامي : اسماعيل الزبيدي

ويتحدث المحامي الأستاذ اسماعيل الزبيدي عن موقف القانون من الثأر بقوله: الثأر هو أن يقوم أولياء الدم «أقارب القتيل» بقتل القاتل نفسه أو قتل أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم دون أن يتركوا للدولة حق إقامة القصاص الشرعي. والقتل وفقاً لأعراف القبائل إما أن يكون نتيجة لهزة مستثارة، مثلاً «اثنان واقفان في السوق، وشتم الأول الثاني فحصل بينهما مهاترات فحصل أن قتل الأولُ الثاني» أو نتيجة لأمر معيب بما يسمى عند بعض القبائل بالعيب الأسود أو الأجذم بمعنى أن يقتل رجل رفيقه في السَّير أو يقتل نسيبه أو يقتل مَتيْعَهُ (وهو مَنْ تَشَارَكَ معه في الطعام)، أو يقتل امرأة أو طفلاً مما تعارفت عليه القبائل العربية.

والمشكلة أن هناك عرفاً بين الأهالي يخالف القانون، فمثلاً عند قتل شخص ضعيف من عائلة ما، ترد الأخرى بقتل أكبر شخص في العائلة المقابلة، فتتعقد الأمور وترد الأخرى بواحد أو اثنين فيتعمق الخلاف والتناحر أكثر فيما بينهم.

وتسود عادة الثأر في المجتمعات الانقسامية التي يقوم تنظيمها الاجتماعي على ثلاثة أسس، هي رابطة الدم، ورابطة المكان، وعدم وضوح التفاضل الاجتماعي والاقتصادي بين الجماعات المكونة لذلك المجتمع، فالثأر يحطم القوة البشرية للأسرة، ويستنزف الأسرة اقتصادياً بشكل خاص والمجتمع والدولة بشكل عام، فأصبح المجتمع والفرد في الأرياف يعترف بحق الرد العدواني، والثأر لم يوجد في الأديان السماوية، ولكن وجد القصاص، أما الثأر من وجهة نظر القانون فهو صورة من صور الجرائم.

*الفرق بين الثأر والقِصَاص

ومن وجهة نظر المحامي الزبيدي هناك ستة فروق بين الثأر والقصاص. الفرق الأول ثمة فرق واضح بين الثأر والذي يعتبر عصبية جاهلية، وبين حكم الله الذي شرّعه لنا المُتَمَثِّلُ بحكم القصاص حيث يُـؤخذ في القصاص بشخصية العقوبة، بمعنى أنَّ الذي يُقْتَل هو القاتل الذي ثبت ارتكابه للجريمة بعد محاكمة شرعية عادلة يَثْبُتُ مِنْ خلالها بيقينٍ أنَّ هذا هو الذي قَتَلَ فلاناً، وبذلك نقيم عليه القصاص.

فيما الفرق الثاني: أن القصاص تقيمه الدولة بعد محاكمةٍ عادلةٍ، فيما الثأر تقوم به القبيلة أو الشخص أخذاً بالمَضَنَّة، ودون أن يكون هناك دليل قاطع بأن فلاناً هو الذي ارتكب هذه الجريمة.

والفرق الثالث: في هذه المفارقات هو أن في القصاص تتكافأ دماء الناس في القَدْرِ والمنزِلَة، ولذلك يقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُوْنَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَىْ بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَىْ مَنْ سِوَاهُمْ).

والفرق الرابع: أن القصاص يهدف إلى معاقبة الجاني بِمِثْلِ فعلِهِ ورَدْعِهِ وزَجْرِ غيرِهِ وتطهيره من الإثم؛ لأن العقوبة كما ثبت لدى فقهاء الشريعة أنها ردع وزجر وتطهير للجاني من الإثم الذي لحقه جراء ارتكابه للجريمة.

والفرق الخامس: أن القصاص يحسم تداعيات الفتن، فكأنما توضع هذه الجمرة من النار في الماء فتنطفئ؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: «وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ»

أما الثأر فإنه بداية لِتَفَجُّرِ الدماء وتَعَاقُبِ أحداثِ الثأر؛ ولذلك نقول: إِنَّ الدَّمَ لايُوَلِّدُ إلا الدَّمَ ، والعُنْفَ لا يُوَلِّدُ إلا العُنْفَ ، والفَنَاءُ عُمْلَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ بينَ طَرَفَيِ الصِّرَاعِ.

والفرق السادس: أن الصلح أمر مقبول وجائز في الشرع أو في القصاص، بمعنى أن أولياء الدم يُسْتَرْضَوْنَ لكي يعفوا عن القاتل، أما في الثأر فلا مجال للعفو فيه.

*صعوبات

ويؤكد المحامي الزبيدي: في القانون من الصعب المساواة بين مجرم محترف أراد ارتكاب جريمة القتل عن عمد وبإرادته لتحقيق مصلحة أو منفعة شخصية، وبين القاتل للأخذ بالثأر، هو بالفعل أقام الجريمة، ولكن أقامها من باب الصدفة والجهل.

ومن الصعوبة بمكان إنشاء قانون خاص بالثأر فقط، لأنه سوف يفتح باب جدال لا نهاية له، ومن العبث أن نصنع قانوناً خاصاً به، وأن نعترف من خلال مواد قانونية بوجوده، علاوة على أن روح القانون هي التي تحكم في قضايا الثأر، والأمر برمته يحكم فيه من خلال محورين، محور المواد المدونة بقانون العقوبات الجنائية، والآخر تنفيذ روح القانون من وجهة نظر القاضي.

*ثانياً : الحيار

ونناقش في الجزء الثاني من هذا التحقيق الصحفي عادة الحيار. وعن هذه العادة يقول الباحث والداعية علاء الدين حسن: احتلَّ الإنسان في الإسلام أعظم مكانة، وأعلى منْزلة، فقد نوَّه القرآن الكريم بشأنه، وأشار إلى رفعة منْزلته وعلوِّ قدره، فقد خلقه الله عزَّ وَجلَّ بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجد له ملائكته، وسخَّر له ما في السَّموات وما في الأرض جميعاً، وفضَّله على كثير مـمَّن خلق تفضيلاً، واستخلفه في الأرض؛ ليقوم بعمارتها وإصلاحها، وأعانه على أداء دوره في هذا الوجود بما زوَّده مِن أدوات العِلم والمعرفة، وأوحى إليه برسالته، وشـرع له مِن التَّكاليف ما يسمو بإنسانيّته، ويرقى بآدميّته، ويصون كرامته. ولا أحد أحبّ إلى الله عزَّ وَجلَّ مِن الإنسان.

   ولأنَّ الكرامة حقٌّ مقرَّر لكلِّ إنسـان، فإنَّه لا يتَّفق مع مبدأ الكرامـة الإنسانيَّة أن يُهضَم حقُّ المرأة وتُسلَب حرّيَّتُهـا؛ لأنَّ هـذا تأباه الشَّريعة الغـرَّاء.

ولقد كرَّم الإسلام المرأة تكريماً عظيماً لم تنله في أيّ حضارة مِن الحضارات، وإذا كنَّا نحن معشر الرِّجال نبني المصانع؛ فالمرأة هي الَّتي تبني الرِّجال.

*عقد الزواج عقد اختياري

وبالوقوف عند عقد الزواج يقول حسن إنه عقد اختياريّ ولا يجوز فيه الإكراه بوجه مِن الوجوه، وذلك لأنَّه يتعلَّق بحياة الزَّوجين (الرَّجل والمرأة) ومستقبلهما وأولادهما، ولذلك فلا يجوز أن يدخل طرف مِن طرفي العقد مكرهاً، هذا العقد الَّذي وصفه القرآن الكريم بـ (الميثاق الغليظ).

والأصل في دقائق هذه المسألة المهمَّة هو قول النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وَسلَّم: (الثَّيِّب أحقّ بنفسها مِن وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها). وفي رواية لأبي هريرة رضيَ الله عَنه: (لا تُنكَح الأيِّم حتَّى تُستأمَر، ولا البكر حتَّى تُستأذَن). قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت).

ويضيف أن هذه الأدلَّة جميعها نصٌّ في أنَّه لا سبيل على المرأة بإجبار في النِّكاح ثيِّباً كانت أو بكراً، وأنَّ الفرق بينهما إنَّما هو الفرق في صورة الإذن، فالثَّيِّب ــ عادة ــ  لا تستحي مِن الكلام في الزَّواج، ولذلك فهي تخطب إلى نفسها أو ترضى وتأمر وليَّها بولاية عقد نكاحها، ولذلك قال صلَّى الله عليهِ وَسلَّم: [تُستأمَر] أي يُطلَب أمرُها.

وأمَّا البكر فالغالب عليها الحياء، ولذلك تُخطب مِن وليِّها، والوليّ يستأذنها ، فإن أذنت بمقال أو بسكوت يدلّ على الرِّضا تزوَّجت، وإلّا فلا.

ولا يملك وليُّها إلّا الرّجوع إلى رأيها في هذه المسألة مادامت راشدة بالغة، على أن يكون المتقدِّم كفئاً، وأن يعطي مهر الـمِثل.

*المزيد من الأدلة

ويروي حسن المزيد من الأدلة عن رسول الله (ص) حول رفض الشرع والدين للحيار بقوله: روى أحمد وابن ماجة مِن حديث عبد الله بن عبَّاس رضيَ الله عنهمَا أنَّ جارية بِكراً أتت النَّبيَّ (ص) فذكرت أنَّ أباها زوَّجها وهي كارهة، فخيَّرها رسول الله (ص).

وروى ابن ماجة مِن حديث عائشة رضيَ الله عنهَا أنَّ فتاة دخلت عليها فقالت: إنَّ أبي زوَّجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا كارهة. فقالت: اجلسي حتَّى يأتي رسول الله (ص). فجاء عليهِ الصَّلاة وَالسَّلام، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت يا رسول الله ! قد أجزت ما صنع والدي، ولكن أردتُ أن أعْلِمَ النِّساء أن ليس للآباء مِن الأمر شيء.

وعن خنساء بنت خزام الأنصاريَّة: أنَّ أباها زوَّجها وهي ثيِّب فكرهـت ذلك، فأتت رسول الله صلَّى الله عليهِ وَسلَّم، فردَّ نكاحه.

لذا ينبغي العمل على تخليص المرأة مِن قيود العادات والتَّقاليد والموروثات الشَّعبيَّة المتخلِّفة، ولاسيما (الحيار)، وهو وقوف ابن العمّ وإصراره على الزّواج مِن ابنة عمِّه بحكم الأعراف المخالفة للعقل والدِّين، ولا شكَّ أنَّ في (الحيار) وغيرها مِن العادات الَّتي ما أنزل الله بها مِن سلطان، لا شكَّ ولا ريب أنَّ فيها إعاقة لمشاركة المرأة في تنمية مهاراتها وقدراتها.

الحيار اعتداء واضح وصريح على حرية المرأة

ومع وجود حالات كثيرة نراها في مجتمعات لا زالت تتمسَّك وتريد المحافظة على عادة (الحيار) فإنَّ السُّكون النَّفسيَّ لا يتحقَّق وهو أحد أهم مقاصد الزواج، وكذلك المودَّة لا يظهر أثرُها في التَّعامل والتَّعاون، مع بقاء هذه الإشكاليّة المقيتة، إلى جانب أنَّ الرَّحمة  لا تكمُلُ؛ بل تبقى ناقصة، وأمام هكذا حال؛ فإن النَّتائج تكون مأسويَّة.

*نكاح المرأة بغير رضاها ممنوع

ويقول المحامي الأستاذ اسماعيل الزبيدي عن عادة الحيار: جاء في قوله تعالى في  سورة النساء: بسم الله الرحمن الرحيم: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحـِل لكم أن ترثوا  النساء كـُرهاً). صدق الله العظيم.

لقد نزلت هـذه الآية في النهي عـن نكاح المرأة بغـيـر رضاها. ومعـناها ليس لكم أن  تنكحوا النساء كـُرهاً وهـُنّ غـير راغبات في الزواج والنكاح. وقوله تعالى: وأن  تعـضلوهـن أي لا تحـبـسوهـن كـُرهاً وهـن غـير راغـبات ولا تمنعـونهـن عـن  النكاح أي الزواج.  

إن الله سبحانه وتعالى يخاطب الولي أي ولي المرأة، وهـنا الولي عامة وليست  محصورة بالأب أو الأخ. الله يخاطب الولي أن لا يمنع زواج المرأة ونكاحها إذا هي  رغـبـت بذلك. وإذا رضيت الفـتاة برجلٍ وكان كفؤاً لها وجب عـلى وليها كالأب أو الأخ أو العـم أن يزوجها به. فإن عـضلها أي امتـنع. زَوّجـَها الولي الأبعـد منه أو  الحاكم وأقـصد به القاضي الشرعـي بغـيـر إذنه.

ويوضح المحامي الزبيدي قائلاً: جاءت الخنساء إلى الـنـبي محمد تشكو أن والدها زوجها من شخص لمصلحة له  فـخـيـّرها النبي بين ترك ذلك الرجل أو الاستمرار معه، لكن الخنساء اختارت الاستمرار وقالت إنما أردت أن أعـلـّم النساء أنه ليس لآبائهـن شي في هـذا الأمرفـلـيـس للولي أن يـُجـْبـِر الـفـتاة عـلى نكاح من لا ترضاه وليس له أن يعـضلها  عـن نكاح من ترضاه إذا كان كـفـؤاً لها. وإنما يجـبـر الـفـتاة ويعـضلها أهـل  الجاهـلـية والظـلمة الـذيـن يزوجون نساءهم بمن يخـتـارون لغـرض لا لمصلحة  الفـتاة ويـُكـْرِهـونـهـا عـلى ذلـك.

ويختم الأستاذ الزبيدي بالقول إن ظاهرة الحيار من أسوأ الظواهر الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة الأسرة. وقد وضع شُـرّاع القانون نصوصاً تؤدي إلى حماية حقوق الأفراد. فقانون الأحوال الشخصية السوري اعتبر الرضا ركناً من أركان عقد الزواج، وبدون الرضا الزواج غير صحيح، فالقانون لا يؤيد مطلقاً ظاهرة الحيار.

*خلاصة القول

المجموعات المسلحة تشجع العادات البالية والنعرات الطائفية

هذه العادات والتقاليد البالية التي انقرضت أو كادت أن تنقرض، للأسباب التي شرحناها في هذا التحقيق الصحفي، ثم عادت من جديد مثل أفعى سامة قاتلة تطل برأسها من وكرها لكي تبث سمومها في جسد المجتمع، مثل عادتي الثأر والحيار اللتين أخذناهما مثالاً ونموذجاً عن تلك العادات كونهما الأكثر ضرراً وفتكاً بالمجتمع والدولة معاً، نظراً للمخاطر الجمة التي تنجم عنهما إلى درجة القتل وإزهاق الأرواح، ستظل قائمة طالما توغل الجهل مع غياب القصاص السريع من الدولة المتمثلة في القضاء، وخاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة وخارج سيطرة الدولة، إلى جانب غياب الوعي الديني، ونشر مشاهد العنف واستمرار الدراما الثأرية، وتخلف المناهج المدرسية التي لا تنشر التسامح والمحبة والمؤاخاة منذ التنشئة.

وإذا أردنا الحل، لا بد أن يكون هناك دولة قوية تطبق القانون بشكل عاجل وسريع، ويجب إقناع الناس بأهمية القانون وأن البشر سواسية، ونشر ذلك عن طريق مؤسسات الدولة المعنية بذلك ومنها مؤسسات المجتمع المدني.

aqtini58@gmail.com