جديد 4E

دراسة بحثية للزميل زياد غصن: الخبز في زمن الحرب..أزمات وسيناريوهات متعددة

دمشق – السلطة الرابعة

زياد غصن

خلصت دراسة عن الخبز أعدها الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية زياد غصن إلى أن خيار استبدال الدعم الحكومي المقدم سنويا للخبز ببدل نقدي لا يعالج مشكلة عدم عدالة توزيع الدعم الحكومي بالنظر إلى أن التوزيع النقدي سيشمل أيضاً أسراً غير محتاجة، وهذا يدخل في خانة استمرار الهدر أيضاً. وفي حال حصر البدل النقدي بشريحة الموظفين العاملين في مؤسسات الدولة، فإن ذلك يعني حرمان شريحة اجتماعية ليست بالقليلة من هذا الدعم.

وتخوفت الدراسة الصادرة عن المرصد العمالي للدراسات والبحوث، من إمكانية لجوء الحكومة إلى وقف هذا الدعم مستقبلا بعد استقرار استهلاك الاسر من مادة الخبز، وتحويل الدعم النقدي إلى أبواب أخرى من الاعتمادات، وهذا من شأنه تهديد معيشة شريحة اجتماعية واسعة. كما أن ذلك الخيار من شأنه تعريض الوضع الغذائي لشريحة من الأسر للخطر نتيجة اضطرارها إلى إنفاق ما يخصص لها من دعم نقدي على تأمين احتياجات أخرى طارئة كالصحة والتعليم وايجار المنازل وغيرها.

ورأى الزميل غصن إن الاستمرار في دعم إنتاج مادة الخبز وبيعها للمستهلكين ليس بالأمر الصعب فيما لو عدّلت الحكومة من استراتيجية تعاطيها مع هذا الملف، بحيث تكون الأولوية لثلاثة مشروعات أساسية هي:

 الأول:

 توفير قاعدة بيانات صحيحة بالاستناد على مقاربات علمية وذلك من خلال إجراء مسح وطني خاص بمادة الخبز المدعوم، يتم من خلال نتائجه تحديد حجم استهلاك الفرد يومياً من المادة، العوامل المؤثرة على عملية الاستهلاك، نسبة ما تشكله المادة من إنفاق الأسرة ومن مكونات الغذاء لديها، المعايير الموضوعية التي يمكن الاستناد عليها لتمييز الأسر المحتاجة إلى الدعم عن غيرها… وغير ذلك. وبناء على تلك البيانات يتم إعادة هيكلة مشروع توزيع الخبز على البطاقة الالكترونية ليكون أكثر موضوعية وواقعية. ونعتقد أن البيانات المتوفرة حاليا جراء العمل بمشروع البطاقة الالكترونية يمكن أن تشكل أساساً يبنى عليه في بناء قاعدة البيانات المطلوبة.

أما المشروع الثاني:

 فيتمثل في فتح ملف التجاوزات والمخالفات والهدر الحاصل في جميع المؤسسات والشركات المعنية بمراحل العملية الإنتاجية لمادة الخبز، وأتمتة عمل جميع المخابز العامة والخاصة ونقاط البيع وربطها بشبكة حكومية تتيح الاطلاع على جميع البيانات والمعلومات المتعلقة بالإنتاج والتوزيع وتدقيقها ومطابقتها محاسبياً، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى توفير مبالغ هائلة تذهب حاليا إلى حلقات الفساد والهدر غير المبرر.

ويشمل المشروع الثالث:

 اعتماد مقاربة جديدة لدعم المادة في جميع مراحل إنتاجها بما يضمن الشفافية الكاملة في هذا الملف، وإيجاد حلول نهائية لمشكلة التشابكات المالية، وما ينتج عنها من أرقام وبيانات متضاربة حول حجم الدعم الحكومي المقدم في كل حلقة إنتاجية.

الدراسة التي تناولت بالبيانات والأرقام تطورات مراحل إنتاج الخبز بدءاً من زراعة القمح فعملية الطحن والإنتاج والتوزيع قالت إن الظروف المناخية القاسية أثرت سلباً في بعض السنوات على زراعة القمح، إلا أن مجريات الحرب كانت كافية لإخراج مساحات واسعة من الاستثمار الزراعي، وتحديداً فيما يتعلق بزراعة القمح، فالبيانات الإحصائية الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة تشير إلى أن إجمالي المساحات المزروعة بالقمح وصلت في العام 2019 إلى حوالي 1.346 مليون هكتار مقارنة بأكثر من 1.995 مليون هكتار في العام 2010 أي أن هناك تراجعاً في المساحات المزروعة بحوالي 649 ألف هكتار.

وفي بعض سنوات الحرب وصلت المساحة المفقودة إلى أكثر من 500 ألف هكتار أي ثلت المساحة المزروعة ما قبل الحرب. وهذا كان كفيلاً بحدوث تراجع كبير في كميات القمح المنتجة محلياً من حوالي 3 ملايين طن في العام 2010 إلى 1.2 مليون طن في العام 2018 وإلى حوالي 2.2 مليون طن في العام 2019، أي أن الإنتاج المحلي من القمح تراجع خلال سنوات الحرب بأكثر من النصف.

وفيما يتعلق بعملية إنتاج الدقيق أشارت الدراسة استناداً إلى بيانات وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك إلى وجود ارتفاع واضح لكميات الدقيق أو الطحين الموزعة سنوياً على المحافظات خلال الفترة الممتدة من العام 2016 ولنهاية العام 2019، ففي العام 2016 لم تكن كميات الطحين الموزعة على المحافظات تتجاوز 647.5 ألف طن، لترتفع في العام التالي وتصل إلى 1.3 مليون طن ثم إلى 1.412 مليون طن في العام 2018 وإلى 1.434 مليون طن في العام الماضي، وهي زيادة فرضها ارتفاع حجم الاستهلاك المحلي من مادة الخبز نتيجة عاملين أساسيين:

-الأول: وهو الأساس، وتمثل في استعادة الحكومة خلال عامي 2017 و2018 السيطرة على مناطق واسعة من البلاد قدرت مساحتها بما يوازي مساحة بعض الدول المجاورة، وهو تطور حمل معه زيادة في حجم استهلاك السلع والخدمات المقدمة من قبل مؤسسات الدولة.

-الثاني: ويتعلق بزيادة استهلاك الأسرة الواحدة من مادة الخبز المدعوم، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار بعض السلع الغذائية منذ بداية العام 2019، وتصاعد ذلك خلال العام الماضي ليشمل جميع السلع، وبنسبة جعلت أسر كثيرة تعجز عن توفير الحد الأدنى من الغذاء.

وأكدت الدراسة وجود تتباين في تكلفة إنتاج الخبز المدعوم بين عام وآخر، لاسيما خلال سنوات الحرب، تبعاً للمتغيرات السعرية التي تطرأ على مدخلات الإنتاج، شراء القمح من المزارعين أو استيراده، عمليات الصيانة وشراء الآلات وخطوط الإنتاج وغيرها. وبحسب تقديرات المؤسسة العامة السورية للمخابز المسؤولة عن توفير مستلزمات الإنتاج للمخابز الحكومية والخاصة(دقيق-مازوت-خميرة-….) فإن تكلفة إنتاج ربطة الخبز الواحدة كانت في العام 2015 تبلغ حوالي 120 ليرة في وقت كانت تباع الربطة للمستهلكين بحوالي 15 ليرة أي أن نسبة الدعم الحكومي في كل ربطة كانت تبلغ 87.5%، وفي العام 2019 ارتفعت التكلفة لتصل إلى 270 ليرة لتصبح بذلك نسبة الدعم 81% بالنظر إلى أن سعر الرابطة كان قد ارتفع في العام 2016 ليبلغ 50 ليرة.

ومع بداية العام الماضي أصبحت 310 ليرات سورية ونسبة الدعم حوالي 84%. وهذا ما تبلور أيضاً في زيادة كتلة الدعم المخصصة لمادة الخبز في موازنات الدولة، فقد ارتفعت من حوالي 312 مليار ليرة في العام 2019 إلى حوالي 322 مليار في العام الماضي، ويتوقع أن يتخطى الإنفاق الفعلي الاعتمادات المرصودة في ضوء رفع الحكومة سعر شراء كيلو القمح إلى 425 ليرة، وانخفاض سعر صرف الليرة الذي بدأ أواخر العام ما قبل الماضي، ووصوله لمستويات كبيرة منتصف عام 2020 قبل أن يستقر بشكل مؤقت ثم يعاود الانخفاض خلال الفترة القليلة الماضية، وانعكاس ذلك على أسعار مستلزمات الإنتاج. حيث تذهب تقديرات وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك إلى أن تكلفة الكيلو الواحد من الخبز تبلغ حاليا حوالي 618 ليرة تتحمل خزينة الدولة منها حوالي 579 ليرة بعد قرار زيادة سعر المادة مؤخراً أي ما نسبته 93.6%.

وخلصت الدراسة إلى أن زيادة استهلاك سورية من مادة الخبز العادي ترتبط بعدة عوامل أبرزها ما يلي:

خبز الشعير

-عادة غذائية قديمة جداً جعلت من حضور الخبز على مائدة السوريين أولوية تتقدم على ما سواها من السلع الغذائية الأخرى لدرجة أن بعض الأسر السورية كانت تلجأ في سنوات الجفاف والقحط التي شهدتها البلاد خلال فترات الاحتلال العثماني والفرنسي إلى صناعة الخبز من الشعير في حال عدم توفر القمح، أو عبر خلط كميات القمح المتوفرة بالشعير لزيادة كميات الخبز المنتجة. وحتى وقت قريب كانت معظم الأسر الريفية هي التي تؤمن ذاتيا مادة الخبز من خلال إنتاجها للمادة بالطريقة التقليدية المعروفة.

-بديل غذائي اضطراري لدى الأسر الفقيرة التي تستعيض بالخبز عن العديد من السلع الغذائية التي يصعب توفيرها، وهذا ما يبرر بوضوح أسباب زيادة استهلاك الأسر الفقيرة ومتدنية الدخل من مادة الخبز، والتي تصبح آنذاك وسيلة وحيدة لتحقيق “الشبع” لدى أفراد الأسرة مع توفير الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة.

-سعرها المدعوم من قبل الدولة مقارنة بأسعار أنواع الخبز الأخرى والتي لا تتناسب مع دخل شريحة واسعة من السوريين، سواء ممن يصنفون على أنهم من أصحاب الدخل المحدود أو أنهم داخل دائرة الفقر. وخلال سنوات الحرب زادت معدلات الفقر بشكل كبير مقارنة بالعقد الأول من القرن الحالي، وتالياً فقد زاد الاعتماد على الخبز لدى مختلف شرائح المجتمع السوري.

– ارتفاع كميات الخبز المهربة إلى مربي الثروة الحيوانية باعتباره بديلاً رخيصاً للعلف الذي زادت أسعاره بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.

– تدني وسوء مواصفات الخبز المنتج الأمر الذي يجعله سريع التلف وعدم قابليته للتخزين، وبالتالي ارتفاع حجم الهدر لدى غالبية الأسر السورية التي تضطر إلى شراء المادة يومياً.

وحول الاستهلاك المحلي من مادة الخبز المدعوم أوضح الزميل غصن أن التقديرات المتعلقة باستهلاك الفرد من مادة الخبز العادي المدعوم تتضارب في ظل غياب أي تقديرات رسمية في هذا الخصوص خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ أن البيانات الرسمية المتاحة حتى الآن هي تلك التي تضمنها مسح دخل ونفقات الأسرة 2009-2010 والتي أشارت إلى أن استهلاك الأسرة السورية من مادة الخبز العادي تبلغ شهرياً حوالي 77.6 كغ واستهلاك الفرد حوالي 14.4 كغ. وبحسب تلك البيانات فإن إنفاق الأسرة على الخبز العادي من إجمالي متوسط إنفاقها الشهري شكل آنذاك ما نسبته 2.5% وحوالي 5.4% من متوسط إنفاق الأسرة على السلع الغذائية فقط. ورغم أن المكتب المركزي للإحصاء قام، وبالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي، بإنجاز ثلاثة مسوح بدءاً من العام 2015 ولغاية العام 2019 لرصد حالة الأمن الغذائي،

إلا أن الاستمارة الموزعة لم تتضمن معلومات تفصيلية حول واقع استهلاك الأسر من الخبز  العادي وغيره من السلع الغذائية، وتالياً فإن المتاح من البيانات هي تلك الصادرة عن مسؤولي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، والتي تستند غالباً على كمية الإنتاج السنوي من مادة الخبر العادي وعدد السكان من دون توضيح مصدر التقديرات المتعلقة بعدد السكان، والتي تم الاعتماد عليها في حساب متوسط نصيب الفرد من إنتاج الخبز سنوياً، والذي يختلف تماماً عن متوسط استهلاك الفرد لأسباب متعددة لعل من أبرزها أن تقديرات وزارة التجارة الداخلية تقل بشكل كبير عن بيانات مسح دخل ونفقات الأسرة 2009 فيما كل المؤشرات تؤكد أن استهلاك الفرد من الخبز العادي ارتفع خلال السنوات الأخيرة تحت ضغط موجات الغلاء التي اجتاحت الأسواق المحلية وتدني الدخل وعدم قدرته على مواكبة معدلات ارتفاع الأسعار. فمثلاً قبل حوالي عامين قدر ت الشركة العامة للمخابز حصة الفرد من مادة الخبز بحوالي 115 كيلو غرام سنوياً وذلك بناء على مخصصاته من الدقيق التمويني والبالغة 100 كيلو غرام مقارنة بحوالي 162 كيلو هي متوسط استهلاك الفرد من الخبز العادي وفقاً لمسح دخل ونفقات الأسر ة عام 2009، خاصة وأن تقديرات الشركة خلال السنوات الأولى للأزمة كانت تشير إلى ارتفاع نسبة استهلاك الخبز المدعوم نسبة 10%، لا بل أن تقديرات الشركة حول حصة الفرد تتناقض مع تقديرات كان قد أدلى بها معاون وزير التجارة الداخلية وحدد فيها حصة الفرد أو حاجته من الخبز بحوالي 120 كغ.

لذلك كان من الطبيعي في ظل غياب بيانات إحصائية منتجة بناء على مسوح علمية دقيقة أن تكثر  أخطاء السياسات الحكومية المتبعة في معالجة ملف الخبز المدعوم، وهذا ما ظهر جلياً مع التوجه إلى تطبيق البطاقة الالكترونية وما رافق ذلك من تردد حكومي حول تحديد المخصصات اليومية التي يحق لكل أسرة سورية الحصول عليها من مادة الخبز، فكانت البداية مع تخصيص كل أسرة يومياً بربطة واحدة (وزنها الرسمي 1300 غرام) وعند التطبيق وتصاعد الانتقادات الشعبية تم رفع المخصصات إلى أربع ربطات يوميا وهو ما أسهم في توسع عمليات البيع غير الرسمية واستمرار  نسبة الهدر، وأخيراً تم توزيع الأسر السورية على أربع شرائح تبعاً لعدد أفراد الأسرة المسجلين على البطاقة الالكترونية، تحصل بموجبها كل أسرة على مخصصاتها اليومية والتي تم حسابها بناء على متوسط حصة الفرد، والمقدرة من قبل وزارة التجارة الداخلية بحوالي 19.5 كغ شهريا أي بزيادة قدرها 6 كغ مقارنة بتقديرات مسح دخل ونفقات الأسرة 2009. لكن مع القرار الأخير القاضي بتخفيض وزن الرابطة من 1300 غرام إلى 1100 غرام أصبحت حصة الفرد بحدود 16.5 كغ.