جديد 4E

السوري المدهش لقيان

بقلم : حسن م. يوسف

“كالعيس في الصحراء يقتلها الظما / والماء فوق ظهورها محمول”

قد لا يكون هذا أجمل وأبلغ بيت أبدعه الشاعر الكبير سليمان العيسى، إلا أنه الأكثر تعبيراً عن حال أمتنا.

قبل أيام سألت نخبة من المثقفين عن المبدع السوري لقيان السميساطي لكن أحداً منهم لم يعرفه، ولو كان لقيان من بلد آخر لأقيمت لتكريمه المهرجانات والندوات والمسابقات الأدبية السنوية.

عندما ولد لوقيان في مدينة سميساط على الفرات في شمال سوريا عام 125 م. كان قد مضى على خروج اليونانيين من سورية 61 عاماً، لكن الرومان الذين خلفوهم، كانوا رجال سيف وحرب، لذا استمرت الثقافة اليونانية في ظل السيف الروماني، وأطلق على تلك الفترة العصر الهلنستي.

ينحدر لوقيان من عائلة سورية فقيرة من مدينة سميساط، وقد تحدث كثيراً في أعماله عن الفقر والجوع والإهانة التي يلاقيها الفقير في حياته، لكنه رغم ظروف عائلته الصعبة تمكن من إتمام دراسته في سورية وعمل في أرجائها كعالم وكاتب وفيلسوف ومعلم. كما أمضى الكثير من وقته متنقلاً بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، فعمل مدرساً في أثينا، ومديراً ومعلماً في مصر… الخ.

كان لقيان يتمتع بمواهب وقدرات مدهشة، فقد أتقن اللغة اليونانية التي كانت لغةَ الفكر والأدب والفن آنذاك، أكثر من الكتّاب اليونانيين أنفسهم. وقد أثبتت الدراسات أن لوقيان استعمل في الكتب التي ألفها باللغة اليونانية القديمة، حوالي عشرة آلاف كلمة، وهذا الرقم لم يصله أي فيلسوف إغريقي على الإطلاق عدا أفلاطون.

وقد تفتح لوقيان عن مواهب عديدة بحيث أصبح من أشهر الفلاسفة والعلماء والكتاب الساخرين في عصره، وبعد وفاته في عام 180 م. لم يمت فكره معه، بل ظل حاضراً عبر القرون. وقد تأثر به كثيرون من الفلاسفة والكتاب في مختلف أنحاء العالم وعلى رأسهم شكسبير وفولتير وموليير.

والأهم من كل ما سبق أن الدراسات العلمية أثبتت بشكل قاطع أن لوقيان السوري هو أول من أبدع رواية الخيال العلمي في تاريخ البشرية. وتعتبر روايته “القصـَّـة الحـقيقيَّــة” التي ترجمها إلى العربية الدكتور عادل داود وصدرت عن الهيئة العامة السورية للكتاب أواخر العام الماضي، أول رواية في تاريخ الخيال العلمي.

في روايته هذه يحلّق لوقيان في عوالم من الغرابة الأسطورية يخترع فيها العديد من المخلوقات الخرافية والنباتات العجيبة وأنهار الخمر والبحار المسحورة، كما يتناول بعمق وسخرية وخيال مجنح قضايا الحياة، ويتهكم على الإنسان وطموحاته المجنونة، ويعرَّي تناقضات الفلاسفة وينتقد المجتمع انتقاداً لاذعاً.

سافر لوقيان بخياله إلى القمر قبل ج. ه. ويلز بسبعة عشر قرناً، كما وصل إلى أرض العمالقة والأقزام قبل أن يكتب جونا ثان سويفت روايته “رحلات جوليفر” بستة عشر قرناً.

يقول لوقيان: ” وأمسكت الساحرة حينئذ بالمكنسة التي كانت وراء الباب، وركبتْ عليها، ثم حلّقت عبر النافذة، تاركة في الغرفة نتانةً فظيعة.” وهذا يعني أن ركوب الساحرة على المكنسة ليس من بنات الخيال الأوروبي، بل من إبداع خيال لوقيان!

وفي مقطع آخر يقوم لوقيان بإحياء الصور، إذ يجعل الآلهة ديانا وحورياتها العاريات يخرجن من اللوحات ويشرعن في الرقص: “وكانت الغرفة مزدانة برسومٍ في غاية الجمال، للربة ديانا وحورياتها شبه العاريات، تُرى فيها الربة وهي تقطِف الورود في مكان، وتعوم في مكان آخر، أو تتبع ظبية لتصيدها. ولكن، بينما كنت أستمتع بالتأمّل فيها، إذ تحرَّكت جميع هذه الشخصيات، وانفصلت عن اللوحات، لتَشرَع في الرقص حولي مُصدِرةً جلبة كبيرة”.

المدهش في الأمر أن لوقيان السوري مشهور في الغرب” كواحد من أكبر الفلاسفة التي عرفهم التاريخ وله مكانة كبيرة بين العلماء” لكنه عندنا يكاد يكون مجهولاً!

صحيفة الوطن – مقالات وآراء – 22 / 11 / 2020 م