جديد 4E

لعبة الزنزانات

نهلة سوسو 

في الصّباح الباكر أبلغوهم أن يجمعوا حوائجهم لإفراغ الزّنزانة خلال نصف ساعة! وهو لم يسمع الطّلبَ من فم الآمر، بل لعلّه سمع من دون أن ينتبه لأنّه وجد نفسه يسابق الرفاق بطيّ بطّانيّاته وملابسه ووسادته وعلب الأدوية التي تقارب على النّفاد! وباب الزنزانة كان موارباً يقف أمامه، خارِجاً، عشراتُ الجند المدجَّجين بالسّلاح، المسْتَرخين بانتظار الخارجين بأجسادِ نحيلة، ومتاع قليل متشابه: – بسرعة يا محمّد! استعجل يا أبا هادي! ويتلفّت «محمّد» حوله، يمسح الزّوايا بعينيه، فلا يرى إلا مسحوقَ رملٍ وغبار ما يلبث أن يصعقه بمشاعرَ مفاجئة! هل صارت الزّنزانة أليفةً قريبةً، يحزنُه أن يغادرها؟ بمَ تشبه بيته الجميل في «جنين» الذي انتُزع منه في فجرٍ بارد بعد كَسِر بابه وترويع أهله؟ يومها سمع صرخةَ أمِّه كغيمةٍ أمطرت على السيّارة المصفّحة والبيوت الهاجعة والدّروب التي أخذوه عبرها، مغمضَ العينين، لكنّه كان يمشي فيها على قدمين وليس على عجلات سيّارة، حتى اختفت تماماً حين أنزلوه وجرّوه إلى عتبةٍ تفكّكت إلى ممرّات تعب في عدّها! كان ذلك منذ عشرين عاماً، وخلال هذه السّنين صارت لديه عائلات تتبدّل، من عكا وحيفا وطبريّا والقدس والجولان، وهم جميعاً على أرضهم، لكنّهم محرومون من هوائها وسمائها وألفة لهجتها التي تتدفّق في باحات المدارس والأسواق والمجالس والمقاهي، فما ذريعة انتزاعهم من زنزانة قائمة في عمق صحراء «النّقب» بعد أن أقاموا فيها سنةً كاملة، لا حضور فيها إلا لعزيف الرّيح أيام الشّتاء وضغط الحَرّ أيام الصّيف القائظ؟ حقّاً ما الذّريعة؟ -هيّا يا «محمّد» لا تتلكّأ حتى لا يفقدوا صبرهم! هم يدّعون أنّهم سينقلوننا إلى زنزانة محميّة جيّداً حتى لا يفكّر أحدٌ بالفرار!

منذ زمن لم يضحك! منذ زمنٍ لم يعرف كيف يضحك البشر! زنزانة جديدة محميّة حتّى لا يستطيع سجينٌ الفرار؟ وأين المفرُّ وهم يقيمون في خيام حقاً، لكنها خيام ضمن طوْقٍ من الجدران الإسمنتيّة الشّاهقة المحروسة بقنّاصيهم، المسكونة بفرق التفتيش المتخصّصة بالهواتف الجوّالة الممنوعة وأجهزة الرّاديو المحرّمة والكتب والأدوات الحادة التي قد تودي بالسّجين إلى المنفردة المرعبة! لماذا يستخفّون بعقولنا وهم سيبعدوننا، فقط، مئة متر عن هذا المكان؟ بقي وحده لم يتخطَّ العتبة التي عبرتها الأقدام متدافعةً بصخب، وفي رأسه، قبل عبورها، لعبةُ الكراسي التي خسرها دائماً في طفولته! إنها لعبة الزنزانات التي تحرمهم من حفنة شعور بالاستقرار!

صحيفة تشرين – زاوية ( آفاق ) 29 أيلول / سبتمبر 2020 م